۞ ان الله يامركم ان تودوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعا بصيرا ٥٨
۞ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا۟ ٱلْأَمَـٰنَـٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُوا۟ بِٱلْعَدْلِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۢا بَصِيرًۭا ٥٨
اِنَّ
اللّٰهَ
یَاْمُرُكُمْ
اَنْ
تُؤَدُّوا
الْاَمٰنٰتِ
اِلٰۤی
اَهْلِهَا ۙ
وَاِذَا
حَكَمْتُمْ
بَیْنَ
النَّاسِ
اَنْ
تَحْكُمُوْا
بِالْعَدْلِ ؕ
اِنَّ
اللّٰهَ
نِعِمَّا
یَعِظُكُمْ
بِهٖ ؕ
اِنَّ
اللّٰهَ
كَانَ
سَمِیْعًا
بَصِیْرًا
۟
3
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكم بِهِ إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ . اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ قُصِدَ مِنهُ الإفاضَةُ في بَيانِ شَرائِعِ العَدْلِ والحُكْمِ، ونِظامِ الطّاعَةِ، وذَلِكَ مِنَ الأغْراضِ التَّشْرِيعِيَّةِ الكُبْرى الَّتِي تَضَمَّنَتْها هَذِهِ السُّورَةُ، ولا يَتَعَيَّنُ تَطَلُّبُ المُناسَبَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما سَبَقَهُ، فالمُناسَبَةُ هي الِانْتِقالُ مِن أحْكامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ إلى أحْكامٍ أُخْرى في أغْراضٍ أُخْرى. وهُنا مُناسَبَةٌ، وهي أنَّ ما اسْتَطْرَدَ مِن ذِكْرِ أحْوالِ أهْلِ الكِتابِ في تَحْرِيفِهِمُ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، ولَيِّهِمْ ألْسِنَتَهم بِكَلِماتٍ فِيها تَوْجِيهٌ مِنَ السَّبِّ، وافْتِرائِهِمْ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ، وحَسَدِهِمْ بِإنْكارِ فَضْلِ اللَّهِ إذْ آتاهُ الرَّسُولَ والمُؤْمِنِينَ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلى خِيانَةِ أمانَةِ الدِّينِ، والعِلْمِ، والحَقِّ، والنِّعْمَةِ، وهي أماناتٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فَناسَبَ أنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِأداءِ الأمانَةِ الحِسِّيَّةِ إلى أهْلِها ويَتَخَلَّصَ إلى هَذا التَّشْرِيعِ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ﴾ صَرِيحَةٌ في الأمْرِ والوُجُوبِ، مِثْلَ صَراحَةِ النَّهْيِ في قَوْلِهِ في الحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ يَنْهاكم أنْ تَحْلِفُوا بِآبائِكم» . وإنَّ فِيها لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ لِظُهُورِ أنَّ مِثْلَ هَذا الخَبَرِ لا يَقْبَلُ الشَّكَّ حَتّى يُؤَكَّدَ لِأنَّهُ إخْبارٌ عَنْ إيجادِ شَيْءٍ لا عَنْ وُجُودِهِ، فَهو والإنْشاءُ سَواءٌ. والخِطابُ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لِتَلَقِّي هَذا الخِطابَ والعَمَلِ بِهِ مِن كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلى شَيْءٍ، ومِن كُلِّ مَن تَوَلّى الحُكْمَ بَيْنَ النّاسِ في الحُقُوقِ. والأداءُ حَقِيقَتُهُ في تَسْلِيمِ ذاتٍ لِمَن يَسْتَحِقُّها، يُقالُ: أدّى إلَيْهِ كَذا، أيْ دَفَعَهُ وسَلَّمَهُ، ومِنهُ أداءُ الدَّيْنِ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٧٥] في سُورَةِ آلِ (ص-٩٢)عِمْرانَ. وأصْلُ أدّى أنْ يَكُونَ مُضاعَفَ أدى بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنى أوْصَلَ، لَكِنَّهم أهْمَلُوا أدى المُخَفَّفَ واسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالمُضاعَفِ. ويُطْلَقُ الأداءُ مَجازًا عَلى الِاعْتِرافِ والوَفاءِ بِشَيْءٍ، وعَلى هَذا فَيُطْلَقُ أداءُ الأمانَةِ عَلى قَوْلِ الحَقِّ والِاعْتِرافِ بِهِ وتَبْلِيغِ العِلْمِ والشَّرِيعَةِ عَلى حَقِّها. والمُرادُ هُنا هو الأوَّلُ مِنَ المَعْنَيَيْنِ، ويُعْرَفُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنهُما أوْ مِن أحَدِهِما بِالقِياسِ عَلَيْهِ قِياسَ الأدْوَنِ. والأمانَةُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ صاحِبُهُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهُ إلى أنْ يَطْلُبَهُ مِنهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وتُطْلَقُ الأمانَةُ مَجازًا عَلى ما يَجِبُ عَلى المُكَلَّفِ إبْلاغُهُ إلى أرْبابِهِ ومُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الخاصَّةِ والعامَّةِ كالدِّينِ والعِلْمِ والعُهُودِ والجِوارِ والنَّصِيحَةِ ونَحْوِها، وضِدُّها الخِيانَةُ في الإطْلاقَيْنِ. والأمْرُ لِلْوُجُوبِ. والأماناتُ مِن صِيَغِ العُمُومِ. فَلِذَلِكَ قالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ فِيمَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلى شَيْءٍ وكانَ لِلْأمِينِ حَقٌّ عِنْدَ المُؤْتَمَنِ جَحَدَهُ إيّاهُ: إنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ أخْذُ الأمانَةِ عِوَضَ حَقِّهِ لِأنَّ ذَلِكَ خِيانَةٌ، ومَنَعَهُ مالِكٌ في المُدَوَّنَةِ، وعَنِ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ: أنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أنْ يَجْحَدَهُ بِمِقْدارِ ما عَلَيْهِ لَهُ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ. قالَ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وزَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، وشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، ومَكْحُولٍ: أنَّ المُخاطَبَ وُلاةُ الأُمُورِ، أمَرَهم أنْ يُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها. وقِيلَ: نَزَلَتْ في أمْرِ عُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أبِي طَلْحَةَ. وأهْلُ الأمانَةِ هم مُسْتَحِقُّوها، يُقالُ: أهْلُ الدّارِ، أيْ أصْحابُها. وذَكَرَ الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إذْ سَلَّمَ عُثْمانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أبِي طَلْحَةَ العَبْدَرِيُّ الحَجَبِيُّ مِفْتاحَ الكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ ﷺ وكانَتْ سِدانَةُ الكَعْبَةِ بِيَدِهِ، وهو مِن بَنِي عَبْدِ الدّارِ وكانَتِ السِّدانَةُ فِيهِمْ، فَسَألَ العَبّاسُ بْنُ عَبَدِ المُطَّلِبِ مِن رَسُولِ اللَّهِ أنْ يَجْعَلَ لَهُ سِدانَةَ الكَعْبَةِ يَضُمُّها مَعَ السِّقايَةِ، وكانَتِ السِّقايَةُ بِيَدِهِ، وهي في بَنِي هاشِمٍ.فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُثْمانَ بْنَ طَلْحَةَ وابْنَ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمانَ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، فَدَفَعَ لَهُما مِفْتاحَ الكَعْبَةِ وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: وما كُنْتُ سَمِعْتُها مِنهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وقالَ النَّبِيءُ ﷺ لِعُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ «خُذُوها خالِدَةً تالِدَةً لا يَنْتَزِعُها مِنكم إلّا ظالِمٌ»، ولَمْ يَكُنْ أخْذُ النَّبِيءِ (ص-٩٣)ﷺ مِفْتاحَ الكَعْبَةِ مِن عُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ أخْذَ انْتِزاعٍ، ولَكِنَّهُ أخَذَهُ يَنْتَظِرُ الوَحْيَ في شَأْنِهِ، لِأنَّ كَوْنَ المِفْتاحِ بِيَدِ عُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ مُسْتَصْحَبٌ مِن قَبْلِ الإسْلامِ، ولَمْ يُغَيِّرِ الإسْلامُ حَوْزَهُ إيّاهُ، فَلَمّا نَزَلَتِ الآيَةُ تَقَرَّرَ حَقُّ بَنِي عَبْدِ الدّارِ فِيهِ بِحُكْمِ الإسْلامِ، فَبَقِيَتْ سِدانَةُ الكَعْبَةِ في بَنِي عَبْدِ الدّارِ، ونَزَلَ عُثْمانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْها لِابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمانَ، وكانَتِ السِّدانَةُ مِن مَناصِبِ قُرَيْشٍ في الجاهِلِيَّةِ فَأبْطَلَ النَّبِيءُ ﷺ بَعْضَها في خُطْبَةِ يَوْمِ الفَتْحِ أوْ حَجَّةِ الوَداعِ، ما عَدا السِّقايَةَ والسِّدانَةَ. فَإطْلاقُ اسْمِ الأمانَةِ في الآيَةِ حَقِيقَةٌ، لِأنَّ عُثْمانَ سَلَّمَ مِفْتاحَ الكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ ﷺ دُونَ أنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ. والأداءُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ، لِأنَّ الحَقَّ هُنا ذاتٌ يُمْكِنُ إيصالُها بِالفِعْلِ لِمُسْتَحِقِّيها، فَتَكُونُ الآيَةُ آمِرَةً بِجَمِيعِ أنْواعِ الإيصالِ والوَفاءاتِ، ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ دَفْعُ الأماناتِ الحَقِيقِيَّةِ، فَلا مَجازَ في لَفْظِ تُؤَدُّوا. وقَوْلُهُ ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ عَطَفَ ﴿أنْ تَحْكُمُوا﴾ عَلى ﴿أنْ تُؤَدُّوا﴾ وفَصَلَ بَيْنَ العاطِفِ والمَعْطُوفِ الظَّرْفُ، وهو جائِزٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] وكَذَلِكَ في عَطْفِ الأفْعالِ عَلى الصَّحِيحِ: مِثْلُ ﴿وتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكم تَخْلُدُونَ وإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٢٩] . والحُكْمُ مَصْدَرُ حَكَمَ بَيْنَ المُتَنازِعَيْنِ، أيِ اعْتَنى بِإظْهارِ المُحِقِّ مِنهُما مِنَ المُبْطِلِ، أوْ إظْهارِ الحَقِّ لِأحَدِهِما وصَرَّحَ بِذَلِكَ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الحَكْمِ بِفَتْحِ الحاءِ وهو (ص-٩٤)الرَّدْعُ عَنْ فِعْلِ ما لا يَنْبَغِي، ومِنهُ سُمِّيَتْ حَكَمَةُ اللِّجامِ، وهي الحَدِيدَةُ الَّتِي تُجْعَلُ في فَمِ الفَرَسِ، ويُقالُ: أحْكِمْ فُلانًا، أيْ أمْسِكْهُ. والعَدْلُ: ضِدُّ الجَوْرِ، فَهو في اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ، يُقالُ: عَدَلَ كَذا بِكَذا، أيْ سَوّاهُ بِهِ ووازَنَهُ عَدْلًا ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]، ثُمَّ شاعَ إطْلاقُهُ عَلى إيصالِ الحَقِّ إلى أهْلِهِ، ودَفْعِ المُعْتَدِي عَلى الحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ، إطْلاقًا ناشِئًا عَمّا اعْتادَهُ النّاسُ أنَّ الجَوْرَ يَصْدُرُ مِنَ الطُّغاةِ الَّذِينَ لا يَعُدُّونَ أنْفُسَهم سَواءً مَعَ عُمُومِ النّاسِ، فَهم إنْ شاءُوا عَدَلُوا وأنْصَفُوا، وإنْ شاءُوا جارُوا وظَلَمُوا، قالَ لَبِيدٌ: ؎ومُقَسِّمٌ يُعْطِي العَشِيرَةَ حَقَّها ومُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِها هَضّامُها فَأطْلَقَ لَفْظَ العَدْلِ الَّذِي هو التَّسْوِيَةُ عَلى تَسْوِيَةٍ نافِعَةٍ يَحْصُلُ بِها الصَّلاحُ والأمْنُ، وذَلِكَ فَكُّ الشَّيْءِ مِن يَدِ المُعْتَدِي، لِأنَّهُ تَظْهَرُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ المُتَنازِعِينَ، فَهو كِنايَةٌ غالِبَةٌ، ومَظْهَرُ ذَلِكَ هو الحُكْمُ لِصاحِبِ الحَقِّ بِأخْذِ حَقِّهِ مِمَّنِ اعْتَدى عَلَيْهِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى هُنا ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾، ثُمَّ تَوَسَّعُوا في هَذا الإطْلاقِ حَتّى صارَ يُطْلَقُ عَلى إبْلاغِ الحَقِّ إلى رَبِّهِ ولَوْ لَمْ يَحْصُلِ اعْتِداءٌ ولا نِزاعٌ. والعَدْلُ: مُساواةٌ بَيْنَ النّاسِ أوْ بَيْنَ أفْرادِ أُمَّةٍ: في تَعْيِينِ الأشْياءِ لِمُسْتَحِقِّها، وفي تَمْكِينِ كُلِّ ذِي حَقٍّ مِن حَقِّهِ، بِدُونِ تَأْخِيرٍ، فَهو مُساواةٌ في اسْتِحْقاقِ الأشْياءِ وفي وسائِلِ تَمْكِينِها بِأيْدِي أرْبابِها، فالأوَّلُ هو العَدْلُ في تَعْيِينِ الحُقُوقِ، والثّانِي هو العَدْلُ في التَّنْفِيذِ، ولَيْسَ العَدْلُ في تَوْزِيعِ الأشْياءِ بَيْنَ النّاسِ سَواءٍ بِدُونِ اسْتِحْقاقٍ. فالعَدْلُ وسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، هُما: الإفْراطُ في تَخْوِيلِ ذِي الحَقِّ حَقَّهُ، أيْ بِإعْطائِهِ أكْثَرَ مِن حَقِّهِ، والتَّفْرِيطُ في ذَلِكَ، أيْ بِالإجْحافِ لَهُ مِن حَقِّهِ، وكِلا الطَّرَفَيْنِ يُسَمّى جَوْرًا، وكَذَلِكَ الإفْراطُ والتَّفْرِيطُ في تَنْفِيذِ الإعْطاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلى وقْتِهِ، كَإعْطاءِ المالِ بِيَدِ السَّفِيهِ، أوْ تَأْخِيرِهِ كَإبْقاءِ المالِ بِيَدِ الوَصِيِّ بَعْدَ الرُّشْدِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥] إلى قَوْلِهِ ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمُ أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٦]؛ فالعَدْلُ يَدْخُلُ في جَمِيعِ المُعامَلاتِ. وهو حَسَنٌ في الفِطْرَةِ لِأنَّهُ كَما يَصُدُّ المُعْتَدِيَ عَنِ اعْتِدائِهِ، (ص-٩٥)كَذَلِكَ يَصُدُّ غَيْرَهُ عَنِ الِاعْتِداءِ عَلَيْهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٩] . وإذْ قَدْ كانَ العَدْلُ بِهَذِهِ الِاعْتِباراتِ تَجُولُ في تَحْدِيدِهِ أفْهامٌ مُخْطِئَةٌ تَعَيَّنَ أنْ تُسَنَّ الشَّرائِعُ لِضَبْطِهِ عَلى حَسَبِ مَدارِكِ المُشَرِّعِينَ ومُصْطَلَحاتِ المُشَرَّعِ لَهم، عَلى أنَّها مُعْظَمَها لَمْ يَسْلَمْ مِن تَحْرِيفٍ لِحَقِيقَةِ العَدْلِ في بَعْضِ الأحْوالِ. فَإنَّ بَعْضَ القَوانِينِ أُسِّسَتْ بِدافِعَةِ الغَضَبِ والأنانِيَّةِ، فَتَضَمَّنَتْ أخْطاءً فاحِشَةً مِثْلَ القَوانِينِ الَّتِي يُمْلِيها الثُّوّارُ بِدافِعِ الغَضَبِ عَلى مَن كانُوا مُتَوَلِّينَ الأُمُورَ قَبْلَهم، وبَعْضُ القَوانِينِ المُتَفَرِّعَةِ عَنْ تَخَيُّلاتٍ وأوْهامٍ، كَقَوانِينِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ والأُمَمِ العَرِيقَةِ في الوَثَنِيَّةِ. ونَجِدُ القَوانِينَ الَّتِي سَنَّها الحُكَماءُ أمْكَنَ في تَحْقِيقِ مَنافِعِ العَدْلِ مِثْلَ قَوانِينِ أثِينَةَ وإسْبَرْطَةَ، وأعْلى القَوانِينِ هي الشَّرائِعُ الإلَهِيَّةُ لِمُناسَبَتِها لِحالِ مَن شُرِّعَتْ لِأجْلِهِمْ، وأعْظَمُها شَرِيعَةُ الإسْلامِ لِابْتِنائِها عَلى أساسِ المَصالِحِ الخالِصَةِ أوِ الرّاجِحَةِ، وإعْراضِها عَنْ أهْواءِ الأُمَمِ والعَوائِدِ الضّالَّةِ، فَإنَّها لا تَعْبَأُ بِالأنانِيَّةِ والهَوى، ولا بِعَوائِدِ الفَسادِ، ولِأنَّها لا تُبْنى عَلى مَصالِحِ قَبِيلَةٍ خاصَّةٍ، أوْ بَلَدٍ خاصٍّ، بَلْ تُبْتَنى عَلى مَصالِحِ النَّوْعِ البَشَرِيِّ وتَقْوِيمِهِ وهَدْيِهِ إلى سَواءِ السَّبِيلِ، ومِن أجْلِ هَذا لَمْ يَزَلِ الصّالِحُونَ مِنَ القادَةِ يُدَوِّنُونَ بَيانَ الحُقُوقِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ بِقَدْرِ الإمْكانِ وخاصَّةً الشَّرائِعَ الإلَهِيَّةَ. قالَ تَعالى ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] أيِ العَدْلِ. فَمِنها المَنصُوصُ عَلَيْهِ عَلى لِسانِ رَسُولِ البَشَرِيَّةِ ومِنها ما اسْتَنْبَطَهُ عُلَماءُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ فَهو مُدْرَجٌ فِيها ومُلْحَقٌ بِها. وإنَّما قُيِّدَ الأمْرُ بِالعَدْلِ بِحالَةِ التَّصَدِّي لِلْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ، وأُطْلِقَ الأمْرُ بِرَدِّ الأماناتِ إلى أهْلِها عَنِ التَّقْيِيدِ: لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ لا يَخْلُو مِن أنْ تَقَعَ بِيَدِهِ أمانَةٌ لِغَيْرِهِ لا سِيَّما عَلى اعْتِبارِ تَعْمِيمِ المُرادِ بِالأماناتِ الشّامِلِ لِما يَجِبُ عَلى المَرْءِ إبْلاغُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ كَما تَقَدَّمَ، بِخِلافِ العَدْلِ فَإنَّما يُؤْمَرُ بِهِ وُلاةُ الحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ، ولَيْسَ كُلُّ أحَدٍ أهْلًا لِتَوَلِّي ذَلِكَ فَتِلْكَ نُكْتَةُ قَوْلِهِ ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ﴾ . قالَ الفَخْرُ: قَوْلُهُ ﴿وإذا حَكَمْتُمْ﴾ هو كالتَّصْرِيحِ بِأنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النّاسِ أنْ يَشْرَعُوا في الحُكْمِ بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ، فالآيَةُ مُجْمَلَةٌ في أنَّهُ بِأيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حاكِمًا ولَمّا دَلَّتِ الدَّلائِلُ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِن إمامٍ وأنَّهُ يُنَصِّبُ القُضاةَ والوُلاةَ وصارَتْ تِلْكَ الدَّلائِلُ لِهَذِهِ الآيَةِ. (ص-٩٦)وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكم بِهِ﴾ واقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّحْرِيضِ عَلى امْتِثالِ الأمْرِ، فَكانَتْ بِمَنزِلَةِ التَّعْلِيلِ، وأغْنَتْ إنَّ في صَدْرِ الجُمْلَةِ عَنْ ذِكْرِ فاءِ التَّعْقِيبِ، كَما هو الشَّأْنُ إذا جاءَتْ (إنَّ) لِلِاهْتِمامِ دُونَ التَّأْكِيدِ. ونِعِمّا أصْلُهُ (نِعْمَ ما) رُكِّبَتْ (نِعْمَ) مَعَ (ما) بَعْدَ طَرْحِ حَرَكَةِ المِيمِ الأوْلى وتَنْزِيلِها مَنزِلَةَ الكَلِمَةِ الواحِدَةِ، وأُدْغِمَ المِيمانِ وحُرِّكَتِ العَيْنُ السّاكِنَةُ بِالكَسْرِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ. و(ما) جَوَّزَ النُّحاةُ أنْ تَكُونَ اسْمًا مَوْصُولًا، أوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، أوْ نَكِرَةً تامَّةً. والجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ (ما) تَجْرِي عَلى ما يُناسِبُ مَعْنى (ما)، وقِيلَ: (ما) زائِدَةٌ كافَّةٌ (نِعْمَ) عَنِ العَمَلِ. والوَعْظُ: التَّذْكِيرُ والنُّصْحُ، وقَدْ يَكُونُ فِيهِ زَجْرٌ وتَخْوِيفٌ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أيْ عَلِيمًا بِما تَفْعَلُونَ وما تَقُولُونَ، وهَذِهِ بِشارَةٌ ونِذارَةٌ.