الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فانزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ٤٠
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
﴿إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَضُرُّوهُ شَيْئًا واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: ٣٩] لِأنَّ نَفْيَ أنْ يَكُونَ قُعُودُهم عَنِ النَّفِيرِ مُضِرًّا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، يُثِيرُ في نَفْسِ السّامِعِ سُؤالًا عَنْ (ص-٢٠١)حُصُولِ النَّصْرِ بِدُونِ نَصِيرٍ، فَبَيَّنَ بِأنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَما نَصَرَهُ حِينَ كانَ ثانِيَ اثْنَيْنِ لا جَيْشَ مَعَهُ، فالَّذِي نَصَرَهُ حِينَ كانَ ثانِيَ اثْنَيْنِ قَدِيرٌ عَلى نَصْرِهِ وهو في جَيْشٍ عَظِيمٍ، فَتَبَيَّنَ أنَّ تَقْدِيرَ قُعُودِهِمْ عَنِ النَّفِيرِ لا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا. والضَّمِيرُ المَنصُوبُ بِـ (تَنْصُرُوهُ) عائِدٌ إلى النَّبِيءِ ﷺ، وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ؛ لِأنَّهُ واضِحٌ مِنَ المَقامِ. وجُمْلَةُ ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ جَوابٌ لِلشَّرْطِ، جُعِلَتْ جَوابًا لَهُ لِأنَّها دَلِيلٌ عَلى مَعْنى الجَوابِ المُقَدَّرِ لِكَوْنِها في مَعْنى العِلَّةِ لِلْجَوابِ المَحْذُوفِ: فَإنَّ مَضْمُونَ ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ قَدْ حَصَلَ في الماضِي فَلا يَكُونُ جَوابًا لِلشَّرْطِ المَوْضُوعِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، فالتَّقْدِيرُ: إنْ لا تَنْصُرُوهُ فَهو غَنِيٌّ عَنْ نُصْرَتِكم بِنَصْرِ اللَّهِ إيّاهُ إذْ قَدْ نَصَرَهُ في حِينِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلّا واحِدٌ لا يَكُونُ بِهِ نَصْرٌ، فَكَما نَصَرَهُ يَوْمَئِذٍ يَنْصُرُهُ حِينَ لا تَنْصُرُونَهُ. وسَيَجِيءُ في الكَلامِ بَيانُ هَذا النَّصْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ الآيَةَ. ويَتَعَلَّقُ ”إذْ أخْرَجَهُ“ بِـ (نَصَرَهُ) أيْ زَمَنَ إخْراجِ الكُفّارِ إيّاهُ، أيْ مِن مَكَّةَ، والمُرادُ خُرُوجُهُ مُهاجِرًا. وأسْنَدَ الإخْراجَ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأنَّهم تَسَبَّبُوا فِيهِ بِأنْ دَبَّرُوا لِخُرُوجِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ كَما قالَ - تَعالى: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠]، وبِأنْ آذَوْهُ وضايَقُوهُ في الدَّعْوَةِ إلى الدِّينِ، وضايَقُوا المُسْلِمِينَ بِالأذى والمُقاطَعَةِ، فَتَوَفَّرَتْ أسْبابُ خُرُوجِهِ ولَكِنَّهم كانُوا مَعَ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُونَ في تَمْكِينِهِ مِنَ الخُرُوجِ خَشْيَةَ أنْ يَظْهَرَ أمْرُ الإسْلامِ بَيْنَ ظَهْرانَيْ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلِذَلِكَ كانُوا في آخِرِ الأمْرِ مُصَمِّمِينَ عَلى مَنعِهِ مِنَ الخُرُوجِ، وأقامُوا عَلَيْهِ مَن يَرْقُبُهُ وحاوَلُوا الإرْسالَ وراءَهُ لِيَرُدُّوهُ إلَيْهِمْ، وجَعَلُوا لِمَن يَظْفَرُ بِهِ جَزاءً جَزِلًا، كَما جاءَ في حَدِيثِ سُراقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ. كُتِبَ في المَصاحِفِ ”إلّا“ مِن قَوْلِهِ: ﴿إلّا تَنْصُرُوهُ﴾ بِهَمْزَةٍ بَعْدَها لامْ ألِفْ، عَلى كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِها مُدْغَمَةً، والقِياسُ أنْ تُكْتَبَ (إنْ لا) - بِهَمْزَةٍ فَنُونٍ فَلامْ ألِفْ - لِأنَّهُما حَرْفانِ: (إنْ) الشَّرْطِيَّةُ و(لا) النّافِيَةُ، ولَكِنَّ رَسْمَ المُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، ولَمْ تَكُنْ لِلرَّسْمِ في القَرْنِ الأوَّلِ قَواعِدُ مُتَّفَقٌ عَلَيْها، ومِثْلُ ذَلِكَ كُتِبَ ﴿إلّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ﴾ [الأنفال: ٧٣] (ص-٢٠٢)فِي سُورَةِ الأنْفالِ. وهم كَتَبُوا قَوْلَهُ: ﴿بَلْ رانَ﴾ [المطففين: ١٤] في سُورَةِ المُطَفِّفِينَ بِلامٍ بَعْدَ الباءِ وراءٍ بَعْدَها، ولَمْ يَكْتُبُوها بِباءٍ وراءٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَها. وقَدْ أثارَ رَسْمُ ﴿إلّا تَنْصُرُوهُ﴾ بِهَذِهِ الصُّورَةِ في المُصْحَفِ خَشْيَةَ تَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ أنَّ إلّا هي حَرْفُ الِاسْتِثْناءِ فَقالَ ابْنُ هِشامٍ في مُغْنِي اللَّبِيبِ: ”تَنْبِيهٌ لَيْسَ مِن أقْسامِ (إلّا)، (إلّا) الَّتِي في نَحْوِ ﴿إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ وإنَّما هَذِهِ كَلِمَتانِ (إنْ) الشَّرْطِيَّةُ و(لا) النّافِيَةُ ومِنَ العَجَبِ أنَّ ابْنَ مالِكٍ عَلى إمامَتِهِ ذَكَرَها في شَرْحِ التَّسْهِيلِ مِن أقْسامِ إلّا ولَمْ يَتْبَعْهُ الدَّمامِينِيُّ في شُرُوحِهِ الثَّلاثَةِ عَلى المُغْنِي ولا الشُّمُنِّيُّ. وقالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الرَّصّاعُ في كِتابِ الجامِعِ الغَرِيبِ لِتَرْتِيبِ آيِ مُغْنِي اللَّبِيبِ:“ وقَدْ رَأيْتُ لِبَعْضِ أهْلِ العَصْرِ المَشارِقَةِ مِمَّنِ اعْتَنى بِشَرْحِ هَذا الكِتابِ - أيِ التَّسْهِيلِ - أخَذَ يَعْتَذِرُ عَنِ ابْنِ مالِكٍ والإنْصافُ أنَّ فِيهِ بَعْضَ الإشْكالِ ”. وقالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الأمِيرُ في تَعْلِيقِهِ عَلى المُغْنِي“ لَيْسَ ما في شَرْحِ التَّسْهِيلِ نَصًّا في ذَلِكَ وهو يُوهِمُهُ فَإنَّهُ عَرَّفَ المُسْتَثْنى بِالمُخْرِجِ بِـ (إلّا) وقالَ ”واحْتَرَزْتُ عَنْ (إلّا) بِمَعْنى إنْ لَمْ ومَثَّلَ بِالآيَةِ، أيْ فَلا إخْراجَ فِيها“ . وقُلْتُ عِبارَةُ مَتْنِ التَّسْهِيلِ ”المُسْتَثْنى هو المُخْرَجُ تَحْقِيقًا أوْ تَقْدِيرًا مِن مَذْكُورٍ أوْ مَتْرُوكٍ بِإلا أوْ ما بِمَعْناها“، ولَمْ يُعَرِّجْ شارِحُهُ المُرادِيُّ ولا شارِحُهُ الدَّمامِينِيُّ عَلى كَلامِهِ الَّذِي احْتَرَزَ بِهِ في شَرْحِهِ ولَمْ نَقِفْ عَلى شَرْحِ ابْنِ مالِكٍ عَلى تَسْهِيلِهِ، وعِنْدِي أنَّ الَّذِي دَعا ابْنَ مالِكٍ إلى هَذا الِاحْتِرازِ هو ما وقَعَ لِلْأزْهَرِيِّ مِن قَوْلِهِ ”إلّا تَكُونُ اسْتِثْناءً وتَكُونُ حَرْفَ جَزاءٍ أصْلُها (إنْ لا) نَقَلَهُ صاحِبُ لِسانِ العَرَبِ. وصُدُورُهُ مِن مِثْلِهِ يَسْتَدْعِي التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ. و﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ النَّصْبِ في“ أخْرَجَهُ ”، والثّانِي كُلُّ مَن بِهِ كانَ العَدَدُ اثْنَيْنِ فالثّانِي اسْمُ فاعِلٍ أُضِيفَ إلى الِاثْنَيْنِ عَلى مَعْنى (مِن)، أيْ ثانِيًا مِنَ اثْنَيْنِ، والِاثْنانِ هُما النَّبِيءُ ﷺ وأبُو بَكْرٍ: بِتَواتُرِ الخَبَرِ، وإجْماعِ المُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. ولِكَوْنِ الثّانِي مَعْلُومًا لِلسّامِعِينَ كُلِّهِمْ لَمْ يَحْتَجْ إلى ذِكْرِهِ، وأيْضًا لِأنَّ المَقْصُودَ تَعْظِيمُ هَذا النَّصْرِ مَعَ قِلَّةِ العَدَدِ. و(إذْ) الَّتِي في قَوْلِهِ: ﴿إذْ هُما في الغارِ﴾ بَدَلٌ مِن (إذْ) الَّتِي في قَوْلِهِ: (إذْ أخْرَجَهُ) فَهو زَمَنٌ واحِدٌ وقَعَ فِيهِ الإخْراجُ، بِاعْتِبارِ الخُرُوجِ، والكَوْنُ في الغارِ. (ص-٢٠٣)والتَّعْرِيفُ في الغارِ لِلْعَهْدِ، لِغارٍ يَعْلَمُهُ المُخاطَبُونَ، وهو الَّذِي اخْتَفى فِيهِ النَّبِيءُ ﷺ وأبُو بَكْرٍ حِينَ خُرُوجِهِما مُهاجِرَيْنِ إلى المَدِينَةِ، وهو غارٌ في جَبَلِ ثَوْرٍ خارِجَ مَكَّةَ إلى جَنُوبِيِّها، بَيْنَهُ وبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ خَمْسَةِ أمْيالٍ، في طَرِيقٍ جَبَلِيٍّ. والغارُ الثُّقْبُ في التُّرابِ أوِ الصَّخْرِ. وإذِ المُضافَةُ إلى جُمْلَةِ“ يَقُولُ ”بَدَلٌ مِن إذِ المُضافَةِ إلى جُمْلَةِ ﴿هُما في الغارِ﴾ . بَدَلَ اشْتِمالٍ. والصّاحِبُ هو ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ وهو أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. ومَعْنى الصّاحِبِ: المُتَّصِفُ بِالصُّحْبَةِ، وهي المَعِيَّةُ في غالِبِ الأحْوالِ، ومِنهُ سُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ صاحِبَةً، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿ولَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ﴾ [الأنعام: ١٠١] في سُورَةِ الأنْعامِ. وهَذا القَوْلُ صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ ﷺ لِأبِي بَكْرٍ حِينَ كانا مُخْتَفِيَيْنِ في غارِ ثَوْرٍ، فَكانَ أبُو بَكْرٍ حَزِينًا إشْفاقًا عَلى النَّبِيءِ ﷺ أنْ يَشْعُرَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَيُصِيبُوهُ بِمَضَرَّةٍ، أوْ يُرْجِعُوهُ إلى مَكَّةَ. والمَعِيَّةُ هُنا: مَعِيَّةُ الإعانَةِ والعِنايَةِ، كَما حَكى اللَّهُ - تَعالى - عَنْ مُوسى وهارُونَ ﴿قالَ لا تَخافا إنَّنِي مَعَكُما﴾ [طه: ٤٦] وقَوْلِهِ: ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أنِّي مَعَكُمْ﴾ [الأنفال: ١٢] * * * ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ التَّفْرِيعُ مُؤْذِنٌ بِأنَّ السَّكِينَةَ أُنْزِلَتْ عَقِبَ الحُلُولِ في الغارِ، وأنَّها مِنَ النَّصْرِ، إذْ هي نَصْرٌ نَفْسانِيٌّ، وإنَّما كانَ التَّأْيِيدُ بِجُنُودٍ لَمْ يَرَوْها نَصْرًا جُثْمانِيًّا. ولَيْسَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ نُزُولُ السَّكِينَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ بَلْ إنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ هو مِن آثارِ سَكِينَةِ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، وتِلْكَ السَّكِينَةُ هي مَظْهَرٌ مِن مَظاهِرِ نَصْرِ اللَّهِ إيّاهُ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الكَلامِ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِ وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ حِينَ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وحِينَ كانَ في الغارِ، وحِينَ قالَ لِصاحِبِهِ: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ . فَتِلْكَ (ص-٢٠٤)الظُّرُوفُ الثَّلاثَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ“ نَصَرَهُ ”عَلى التَّرْتِيبِ المُتَقَدِّمِ، وهي كالِاعْتِراضِ بَيْنَ المُفَرَّعِ عَنْهُ والتَّفْرِيعِ، وجاءَ نَظْمُ الكَلامِ عَلى هَذا السَّبْكِ البَدِيعِ لِلْمُبادَأةِ بِالدَّلالَةِ عَلى أنَّ النَّصْرَ حَصَلَ في أزْمانٍ وأحْوالٍ ما كانَ النَّصْرُ لِيَحْصُلَ في أمْثالِها لِغَيْرِهِ لَوْلا عِنايَةُ اللَّهِ بِهِ، وأنَّ نَصْرَهُ كانَ مُعْجِزَةً خارِقًا لِلْعادَةِ. وبِهَذا البَيانِ تَنْدَفِعُ الحَيْرَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُفَسِّرِينَ في مَعْنى الآيَةِ، حَتّى أغْرَبَ كَثِيرٌ مِنهم فَأرْجَعَ الضَّمِيرَ المَجْرُورَ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ إلى أبِي بَكْرٍ، مَعَ الجَزْمِ بِأنَّ الضَّمِيرَ المَنصُوبَ في أيَّدَهُ راجِعٌ إلى النَّبِيءِ ﷺ فَنَشَأ تَشْتِيتُ الضَّمائِرِ، وانْفِكاكُ الأُسْلُوبِ بِذِكْرِ حالَةِ أبِي بَكْرٍ، مَعَ أنَّ المَقامَ لِذِكْرِ ثَباتِ النَّبِيءِ ﷺ وتَأْيِيدِ اللَّهِ إيّاهُ، وما جاءَ ذِكْرُ أبِي بَكْرٍ إلّا تَبَعًا لِذِكْرِ ثَباتِ النَّبِيءِ ﷺ، وتِلْكَ الحَيْرَةُ نَشَأتْ عَنْ جَعْلِ ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ﴾ مُفَرَّعًا عَلى ﴿إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ﴾ وألْجَأهم إلى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ إنَّها جُنُودُ المَلائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وكُلُّ ذَلِكَ وُقُوفٌ مَعَ ظاهِرِ تَرْتِيبِ الجُمَلِ، مَعَ الغَفْلَةِ عَنْ أُسْلُوبِ النَّظْمِ المُقْتَضِي تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا. والسَّكِينَةُ اطْمِئْنانُ النَّفْسِ عِنْدَ الأحْوالِ المَخُوفَةِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والتَّأْيِيدُ التَّقْوِيَةُ والنَّصْرُ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ اليَدِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والجُنُودُ جَمْعُ جُنْدٍ بِمَعْنى الجَيْشِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالجُنُودِ﴾ [البقرة: ٢٤٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وتَقَدَّمَ آنِفًا في هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ جَوَّزَ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ﴾ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ عَطْفَ تَفْسِيرٍ فَيَكُونُ المُرادُ بِالجُنُودِ المَلائِكَةَ الَّذِينَ ألْقَوُا الحَيْرَةَ في نُفُوسِ المُشْرِكِينَ فَصَرَفُوهم عَنِ اسْتِقْصاءِ البَحْثِ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ وإكْثارِ الطَّلَبِ وراءَهُ والرَّصْدِ لَهُ في الطُّرُقِ المُؤَدِّيَةِ والسُّبُلِ المُوَصِّلَةِ، لا سِيَّما ومِنَ الظّاهِرِ أنَّهُ قَصَدَ يَثْرِبَ مُهاجَرَ أصْحابِهِ، ومَدِينَةَ أنْصارِهِ، فَكانَ سَهْلًا عَلَيْهِمْ أنْ يَرْصُدُوا لَهُ طُرُقَ الوُصُولِ إلى المَدِينَةِ. (ص-٢٠٥)ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ“ أخْرَجَهُ " والتَّقْدِيرُ: وإذْ أيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أيْ بِالمَلائِكَةِ، يَوْمَ بَدْرٍ، ويَوْمَ الأحْزابِ، ويَوْمَ حُنَيْنٍ، كَما مَرَّ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ وأنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ [التوبة: ٢٦] (والكَلِمَةُ) أصْلُها اللَّفْظَةُ مِنَ الكَلامِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلى الأمْرِ والشَّأْنِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِن كُلِّ ما يَتَحَدَّثُ بِهِ النّاسُ ويُخْبِرُ المَرْءُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِن شَأْنِهِ، قالَ - تَعالى: ﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: ٢٨] (أيْ أبْقى التَّبْرِيءَ مِنَ الأصْنامِ والتَّوْحِيدِ لِلَّهِ شَأْنَ عَقِبِهِ وشِعارَهم) وقالَ ﴿وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] أيْ بِأشْياءَ مِنَ التَّكالِيفِ كَذَبْحِ ولَدِهِ، واخْتِتانِهِ، وقالَ لِمَرْيَمَ ﴿إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٤٥] أيْ بِأمْرٍ عَجِيبٍ، أوْ بِوَلَدٍ عَجِيبٍ، وقالَ وتَمَّتْ كَلِماتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا أيْ أحْكامُهُ ووُعُودُهُ ومِنهُ قَوْلُهم: لا تُفَرِّقْ بَيْنَ كَلِمَةِ المُسْلِمِينَ، أيْ بَيْنَ أمْرِهِمْ واتِّفاقِهِمْ، وجَمَعَ اللَّهُ كَلِمَةَ المُسْلِمِينَ، فَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَأْنُهم وكَيْدُهم وما دَبَّرُوهُ مِن أنْواعِ المَكْرِ. ومَعْنى السُّفْلى الحَقِيرَةُ لِأنَّ السُّفْلَ يُكْنى بِهِ عَنِ الحَقارَةِ، وعَكَسُهُ قَوْلُهُ: ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا﴾ فَهي الدِّينُ وشَأْنُ رَسُولِهِ والمُؤْمِنِينَ، وأشْعَرَ قَوْلُهُ: ﴿وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى﴾ أنَّ أمْرَ المُشْرِكِينَ كانَ بِمَظِنَّةِ القُوَّةِ والشِّدَّةِ لِأنَّهم أصْحابُ عَدَدٍ كَثِيرٍ وفِيهِمْ أهْلُ الرَّأْيِ والذَّكاءِ، ولَكِنَّهم لَمّا شاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ خَذَلَهُمُ اللَّهُ وقَلَبَ حالَهم مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ. وجُمْلَةُ ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ بِمَنزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْكَلامِ لِأنَّهُ لَمّا أخْبَرَ عَنْ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأنَّها صارَتْ سُفْلى أفادَ أنَّ العَلاءَ انْحَصَرَ في دِينِ اللَّهِ وشَأْنِهِ. فَضَمِيرُ الفَصْلِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ، ولِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ كَلِمَةُ اللَّهِ عَلى كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا، إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ إفادَةَ جَعْلِ كَلِمَةِ اللَّهِ عُلْيا، لِما يُشْعِرُ بِهِ الجَعْلُ مِن إحْداثِ الحالَةِ، بَلْ إفادَةَ أنَّ العَلاءَ ثابِتٌ لَها ومَقْصُورٌ عَلَيْها، فَكانَتِ الجُمْلَةُ كالتَّذْيِيلِ لِجَعْلِ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا سُفْلى. ومَعْنى جَعْلِها كَذَلِكَ: أنَّهُ لَمّا تَصادَمَتِ الكَلِمَتانِ وتَناقَضَتا بَطَلَتْ كَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا واسْتَقَرَّ ثُبُوتُ كَلِمَةِ اللَّهِ. (ص-٢٠٦)وقَرَأ يَعْقُوبُ، وحْدَهُ ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ بِنَصْبِ (كَلِمَةَ) عَطْفًا عَلى ﴿كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى﴾ فَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ عُلْيا بِجَعْلِ اللَّهِ وتَقْدِيرِهِ. وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَتَيْنِ: لِأنَّ العَزِيزَ لا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، والحَكِيمَ لا يَفُوتُهُ مَقْصِدٌ، فَلا جَرَمَ تَكُونُ كَلِمَتُهُ العُلْيا وكَلِمَةُ ضِدِّهِ السُّفْلى.