وَّقَوْلِهِمْ
اِنَّا
قَتَلْنَا
الْمَسِیْحَ
عِیْسَی
ابْنَ
مَرْیَمَ
رَسُوْلَ
اللّٰهِ ۚ
وَمَا
قَتَلُوْهُ
وَمَا
صَلَبُوْهُ
وَلٰكِنْ
شُبِّهَ
لَهُمْ ؕ
وَاِنَّ
الَّذِیْنَ
اخْتَلَفُوْا
فِیْهِ
لَفِیْ
شَكٍّ
مِّنْهُ ؕ
مَا
لَهُمْ
بِهٖ
مِنْ
عِلْمٍ
اِلَّا
اتِّبَاعَ
الظَّنِّ ۚ
وَمَا
قَتَلُوْهُ
یَقِیْنًا
۟ۙ
3
ثم سجل عليهم بعد ذلك رذيلة سابعة ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويفضحهم على رءوس الأشهاد فى كل زمان ومكان فقال : ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ ) والمسيح : لقلب تشريف وتكريم لعيسى - عليه السلام - قيل : لقب بذلك لأنه ممسوح من كل خلق ذميم . وقيل : لأنه مسح بالبركة كما فى قوله - تعالى - : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ) وقيل لأن الله مسح عنه النذوب .أى : وبسبب قولهم على سبيل التبجح والتفاخر إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، لعنهم الله وغضب عليهم ، كما لعنهم وغضب عليهم - أيضا - بسبب جرائمهم السابقة .وهذا القول الذى صدر عنهم هو فى ذاته جريمة؛ لأنهم قالوه على سبيل التبجح والتفاخر لقتلهم - فى زعمهم - نبيا من أنبياء الله ، ورسولا من أولى العزم من الرسل .وقولهم هذا وإن كان يخالف الحقيقة والواقع ، إلا أنه يدل على أنهم أرادوا قتله ففعلا ، وسلكوا كل السبل لبلوغ غايتهم الدنيئة ، فدسوا عليه عند الرومان ، ووصفوه بالدجل والشعوذة ، وحاولوا أن يسلموه لأعدائه ليصلبوه ، بل زعموا أنهم أسلموا فعلا لهم ، ولكن الله - تعالى - خيب سعيهم ، وأبطل مكرهم ، وحال بينهم وبين ما يشتهون ، حيث نجى عيسى - عليه السلام - من شرورهم ، ورفعه إليه دون أن يمسه سوء منهم .ولا شك أن صدر عن اليهود فى حق عيسى - عليه السلام - من محاولة قتله ، واتخاذ كل وسيلة لتنفيذ غايتهم ، ثم تفاخرهم بأنهم قتلوه وصلبوه ، لا شك أن كل ذلك يعتبر من أكبر الجرائم؛ لأنه من المقرر فى الشرائع والقوانين أن من شرع فى ارتكاب من الجرائم واتخذ كل الوسائل لتنفيذها ، ولكنها لم تتم لأمر خارج عن إرادته ، فإنه يعد من المجرمين الذين يستحقون العقاب الشديد .واليهود قد اتخذوا كافة الطرق لقتل عيسى - عليه السلام - كما بينا - ، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون لأسباب خارجة عن طاقتهم . ومنعنى هذا أنه لو بقيت لهم أية وسيلة لإِتمام جريمتهم النكراء لما تقاعسوا عنها ، ولأسرعوا فى تنفيذها فهم يستحقون عقوبة المجرم فى تفكيره ، وفى نيته ، وفى شروعه الأثيم ، لارتكاب ما نهى الله عنه .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كانوا كافرين بعيسى - عليه السلام - أعداء له ، عامدين لقتله ، يسمونه الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة ، فيكف قالوا : ( إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله ) ؟قلت : قالوه على وجه الاستهزاء ، كقول فرعون ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح فى الحكاية عنهم ، رفعا لعيسى عما كانوا يذكرونه به ، وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله : ( لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً ) وقوله - تعالى - ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ ) رد على مزاعمهم الكاذبة ، وأقاويلهم الباطلة التى تفاخروا بها بأنهم قتلوا عيسى - عليهم السلام - . أى : إن ما قاله اليهود متفاخرين به ، وهو زعمهم أنه قتلوا عيسى - عليه السلام - ، هو من باب أكاذيبهم المعروفة عنهم؛ فإنهم ما قتلوه ، وما صلبوه ولكن الحق أنهم قتلوا رجلا آخر يشبه عيسى - عليه السلام - فى الخلقة فظنوه إياه وقتلوه وصلبوه ، ثم قالوا . إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله .قال الفخر الرازى : قوله : ( شُبِّهَ ) مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه . وإن أسندته إلى المقتول لم يجر له ذكر؟ والجواب من وجهين :الأول : أنه مسند إلى الجار والمجرور .وهو كقولك : خيل إليه . كأنه قيل : ولكن قوع لهم الشبه . الثانى : أن يسند إلى ضمير المقتول ، لأن قوله ( وَمَا قَتَلُوهُ ) يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق فحسن إسناد ( شُبِّهَ ) إليه .وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف قوله : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ) زعم أكثر اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه ، فأكذبهم الله - تعالى - فى ذلك وقال : ( ولكن شُبِّهَ لَهُمْ ) . أى : شبه لهم المقتول بأن ألقى عليه شبه المسيح فلما دخلوا عليه ليقتلوه - أى ليقتلوا المسيح - وجدوا الشبيه فقتلوه وصلبوه ، يظنونه المسيح وما هو فى الواقع ، إذ قد رفع الله عيسى إلى السماء ، ونجاه من شر الأعداء .وقيل المعنى : ولكن التبس عليهم الأمر حيث ظنوا المقتول عيسى كما أوهم بذلك أحبارهم .هذا ، وللمفسرين فى بيان كيفية التشبيه لهم وجوه من أهمها اثنان :الأول : أن الله - تعالى - ألقى شبه عيسى - عليه السلام - على أحد الذين خانوه ودبروا قتله وهو ( يهوذا الإِسخربوطى ) الذى كان غينا وجاسوسا على المسيح ، والذى أرشد الجند الذين أرادوا قتله إلى مكانه ، وقال لهم : من أقبله أمامكم يكون هو المسيح ، فاقبضوا عليه لتقتلوه ، فدخل بين عيسى ليدلهم عليه ليقتلوه فرفع الله عيسى ، وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى .وهذا الوجه قد جاء مفصلا فى بعض الأناجيل وأشار إليه الآلوسى بقوله : كان رجل من الحواريين ينافس عيسى - عليه السلام - فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه ، وأخذ على ذلك ثلاثين درهما ، فدخل بيت عيسى - عليه السلام - فرفع الله عيسى ، وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فتقوله ، وهم يظنون أنه عيسى .الثانى : أن الله - تعالى - القى شبه المسيح على أحد تلاميذه المخلصين حينا أجمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه سيرفعه إليه ، فقال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهى فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم أنا . فألقى الله صورة عيسى عليه ، فقتل ذلك الرجل وصلب .وقد أطالب الإِمام ابن كثير فى ذكر الروايات التى تؤيد هذا الوجه ، ومنها قوله : عن ابن عباس قال : لما أراد الله - تعالى - أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج على أصحابه وفى البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين فقال لهم إن منكم من يكفر بعدى اثنتى عشرة مرة بعد أن آمن بى .قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهى فيقتل مكانى ، ويكون معى فى درجتى؟فقال شاب من أحدثهم سنا . فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم . فقال ذلك الشاب . فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم . فقام ذلك الشاب . فقال : أنا .فقال له عيسى ، هو أنت ذاك . فألقى عليه شبه عيسى . ورفع عيسى من روزنة فى البيت إلى السماء . قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتى عشرة مرة بعد أن آمن . قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس ، ورواه النسائى عن أبى كريب عن أبى معاوية ، وقال غير واحد من السلف : أنه قال لهم . أيكم يلقى عليه شبهى فيقتل مكانى وهو رفيقى فى الجن . . .والذى يجب اعتقاده بنص القرآن الكريم أن عيسى - عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ، وإنما رفعه الله إليهم ، ونجاه من مكر أعدائه ، أما الذى قتل وصلب فهو شخص سواه .ثم قال - تعالى - ( وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن ) . أى : وإن الذين اختلفوا فى شأن عيسى من أهل الكتاب لفى شك دائم من حقيقة أمره . أى : فى حيرة وتردد ، ليس عندهم علم ثابت قطعى فى شأنه ، أو فى شأن قتله ، ولكنهم لا يتبعون فيما يقولونه عنه إلا الظن الذى لا تثبت به حجة . ولا يقوم عليه برهان .ولقد اختلف أهل الكتاب فى شأن عيسى اختلافا كبيراً . فمنهم من زعم أنه ابن الله . وادعى أن فى عيسى عنصرا إليها مع العنصر الإِنسانى . وأن الذى ولدته مريم هو العنصر الإِنسانى . ثم أفاض عليه بعد ذلك العنصر الإِلهى .ومنهم من قال : إن مريم ولدت العنصرين معا .ولقد اختلفوا فى أمر قتله . فقال بعض اليهود : إنه كان كاذبا فقتلناه قتلا حقيقا ، وتردد آخرون فقالوا : إن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا . وإن كان المقتول صاحبنا فأين عيسى؟وقال آخرون : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا .إلى غير ذلك من خلاقاتهم التى لا تنتهى حول حقيقة عيسى وحول مسألة قتله وصلبه .فالمراد بالموصول فى قوله : ( وَإِنَّ الذين اختلفوا ) ما يعم اليهود والنصارى جميعا . والضمير فى قوله ( فيه ) يعود إلى عيسى - عليه السلام - .وقوله ( مِّنْهُ ) جار مجرور متعلق بمحذوف صفة الشك .قال الآلوسى : وأصل الشك أن يستعمل فى تساوى الطرفين ، وقد يستعمل فى لازم معناه وهو التردد مطلقا ، وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا . ولذا أكده بنفى العلم الشامل لذلك أيضا بقوله - سبحانه - : ( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن ) .وقوله ( إِلاَّ اتباع الظن ) الراجح أن الاستثناء فيه منقطع ، أى مالهم به من علم لكنهم يتبعون الظن .وقيل : هو متصل ، لأن العلم والظن يجمعهما مطلق الإدراك .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين .ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما فيكف يكونون شاكين ظانين؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن إن لاحت لهم إمارة ظنوا .ولم يرتض هذا الجواب صاحب الانتصاف فقال : وليس فى هذا الجواب شفاء الغليل . والظاهر - والله أعلم - أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك فى أمرهم والتردد ، فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ، ثم كانوا لا يخلون من ظن فى بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرتفعون إلى العلم فيه البتة . وكيف يعلم الشئ على ما خلاف ما هو به؟ فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة فى الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن .