You are reading a tafsir for the group of verses 106:1 to 106:4
لايلاف قريش ١ ايلافهم رحلة الشتاء والصيف ٢ فليعبدوا رب هاذا البيت ٣ الذي اطعمهم من جوع وامنهم من خوف ٤
لِإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ ١ إِۦلَـٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ ٢ فَلْيَعْبُدُوا۟ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٣ ٱلَّذِىٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍۢ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍۭ ٤
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
﴿لِإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ ﴿إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ﴾ ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ ﴿الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ﴾ افْتِتاحٌ مُبْدِعٌ، إذْ كانَ بِمَجْرُورٍ بِلامِ التَّعْلِيلِ ولَيْسَ بِإثْرِهِ بِالقُرْبِ ما يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيقِ بِهِ، فَفِيهِ تَشْوِيقٌ إلى مُتَعَلِّقِ هَذا المَجْرُورِ. وزادَهُ الطُّولُ تَشْوِيقًا، إذْ فُصِلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ (بِالفَتْحِ) بِخَمْسِ كَلِماتٍ، فَيَتَعَلَّقُ (لِإيلافِ) بِقَوْلِهِ (فَلْيَعْبُدُوا) . وتَقْدِيمُ هَذا المَجْرُورِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ، إذْ هو مِن أسْبابِ أمْرِهِمْ بِعِبادَةِ اللَّهِ الَّتِي أعْرَضُوا عَنْها بِعِبادَةِ الأصْنامِ، والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (لِيَعْبُدُوا) . وأصْلُ نَظْمِ الكَلامِ: لِتَعْبُدْ قُرَيْشٌ رَبَّ هَذا البَيْتِ الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ لِإيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ، فَلَمّا اقْتَضى قَصْدُ الِاهْتِمامِ بِالمَعْمُولِ تَقْدِيمَهُ عَلى عامِلِهِ، تَوَلَّدَ مِن تَقْدِيمِهِ مَعْنًى جَعَلَهُ شَرْطًا لِعامِلِهِ، فاقْتَرَنَ عامِلُهُ بِالفاءِ الَّتِي هي مِن شَأْنِ جَوابِ الشَّرْطِ، فالفاءُ الدّاخِلَةُ في قَوْلِهِ (فَلْيَعْبُدُوا) مُؤْذِنَةٌ بِأنَّ ما قَبْلَها مِن قُوَّةِ الشَّرْطِ، أيْ: مُؤْذِنَةٌ بِأنَّ تَقْدِيمَ المَعْمُولِ مَقْصُودٌ بِهِ اهْتِمامٌ (ص-٥٥٥)خاصٌّ وعِنايَةٌ قَوِيَّةٌ هي عِنايَةُ المُشْتَرِطِ بِشَرْطِهِ، وتَعْلِيقُ بَقِيَّةِ كَلامِهِ عَلَيْهِ لِما يَنْتَظِرُهُ مِن جَوابِهِ، وهَذا أُسْلُوبٌ مِنَ الإيجازِ بَدِيعٌ. قالَ في الكَشّافِ ( دَخَلَتِ الفاءُ لِما في الكَلامِ مِن مَعْنى الشَّرْطِ؛ لِأنَّ المَعْنى إمّا لا فَلْيَعْبُدُوهُ لِإيلافِهِمْ، أيْ أنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لا تُحْصى، فَإنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسائِرِ نِعَمِهِ فَلْيَعْبُدُوهُ لِهَذِهِ الواحِدَةِ الَّتِي هي نِعْمَةٌ ظاهِرَةٌ اهـ. وقالَ الزَّجّاجُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ورَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: ٣] دَخَلَتِ الفاءُ لِمَعْنى الشَّرْطِ كَأنَّهُ قِيلَ: وما كانَ فَلا تَدَعْ تَكْبِيرَهُ اهـ. وهو مَعْنى ما في الكَشّافِ. وسَكَتا عَنْ مَنشَأِ حُصُولِ مَعْنى الشَّرْطِ، وذَلِكَ أنَّ مِثْلَ هَذا جارٍ عِنْدَ تَقْدِيمِ الجارِّ والمَجْرُورِ ونَحْوِهِ مِن مُتَعَلِّقاتِ الفِعْلِ وانْظُرْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ [البقرة: ٤٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨] في سُورَةِ يُونُسَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَلِذَلِكَ فادْعُ واسْتَقِمْ﴾ [الشورى: ١٥] في سُورَةِ الشُّورى «. وقَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ لِلَّذِي سَألَهُ عَنِ الجِهادِ، فَقالَ لَهُ ألَكَ أبَوانِ ؟ فَقالَ: نَعَمْ. قالَ: فَفِيهِما فَجاهِدْ» . ويَجُوزُ أنْ تُجْعَلَ اللّامُ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ (اعْجَبُوا) مَحْذُوفًا يُنْبِئُ عَنْهُ اللّامُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ مَجْرُورٍ بِها بَعْدَ مادَّةِ التَّعَجُّبِ، يُقالُ: عَجَبًا لَكَ، وعَجَبًا لِتِلْكَ القَضِيَّةِ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ ” ؎فَيا لَكَ مِن لَيْلٍ “؛ لِأنَّ حَرْفَ النِّداءِ مُرادٌ بِهِ التَّعَجُّبُ فَتَكُونَ الفاءُ في قَوْلِهِ (فَلْيَعْبُدُوا) تَفْرِيعًا عَلى التَّعَجُّبِ. وجَوَّزَ الفَرّاءُ وابْنُ إسْحاقَ في السِّيرَةِ أنْ يَكُونَ ﴿لِإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ مُتَعَلِّقًا بِما في سُورَةِ الفِيلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلَهم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: ٥] قالَ القُرْطُبِيُّ. وهو مَعْنى قَوْلِ مُجاهِدٍ ورِوايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا بِمَنزِلَةِ التَّضْمِينِ في الشِّعْرِ وهو أنْ يَتَعَلَّقَ مَعْنى البَيْتِ بِالَّذِي قَبْلَهُ تَعَلُّقًا لا يَصِحُّ إلّا بِهِ اهـ. يَعْنُونَ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وإنْ كانَتْ سُورَةً مُسْتَقِلَّةً فَهي مُلْحَقَةٌ بِسُورَةِ الفِيلِ، فَكَما تُلْحَقُ الآيَةُ بِآيَةٍ نَزَلَتْ قَبْلَها، تُلْحَقُ آياتٌ هي سُورَةٌ فَتَتَعَلَّقُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ قَبْلَها. والإيلافُ: مَصْدَرُ أأْلَفَ بِهَمْزَتَيْنِ بِمَعْنى ألِفَ وهُما لُغَتانِ، والأصْلُ هو ألِفَ، وصِيغَةُ الإفْعالِ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ؛ لِأنَّ أصْلَها أنْ تَدُلَّ عَلى حُصُولِ الفِعْلِ مِنَ الجانِبَيْنِ، فَصارَتْ تُسْتَعْمَلُ في إفادَةِ قَوْلِ الفِعْلِ مَجازًا ثُمَّ شاعَ ذَلِكَ في بَعْضِ الأفْعالِ حَتّى ساوى الحَقِيقَةَ مِثْلَ سافَرَ، وعافاهُ اللَّهُ، وقاتَلَهُمُ اللَّهُ. (ص-٥٥٦)وقَرَأهُ الجُمْهُورُ في المَوْضِعَيْنِ (لِإيلافِ) بِياءٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ وهي تَخْفِيفٌ لِلْهَمْزَةِ الثّانِيَةِ. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ (لِإلافٍ) الأوَّلَ بِحَذْفِ الياءِ الَّتِي أصْلُها هَمْزَةٌ ثانِيَةٌ، وقَرَأهُ (إيلافِهِمْ) بِإثْباتِ الياءِ مِثْلَ الجُمْهُورِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ (لِيلافِ قُرَيْشٍ) بِحَذْفِ الهَمْزَةِ الأُولى. وقَرَأ (إلافِهِمْ) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مِن غَيْرِ ياءٍ. وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ والقُرْطُبِيُّ أنَّ أبا بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ قَرَأ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ في (لِإأْلافِ) وفي (إأْلافِهِمْ)، وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ أنَّ تَحْقِيقَ الهَمْزَتَيْنِ لا وجْهَ لَهُ. قُلْتُ: لا يُوجَدُ في كُتُبِ القِراءاتِ الَّتِي عَرَفْناها نِسْبَةُ هَذِهِ القِراءَةِ إلى أبِي بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ. والمَعْرُوفُ أنَّ عاصِمًا مُوافِقٌ لِلْجُمْهُورِ في جَعْلِ ثانِيَةِ الهَمْزَتَيْنِ ياءً، فَهَذِهِ رِوايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أبِي بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ. وقَدْ كُتِبَ في المُصْحَفِ (إلافِهِمْ) بِدُونِ ياءٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ، وأمّا الألِفُ المَدَّةُ الَّتِي بَعْدَ اللّامِ الَّتِي هي عَيْنُ الكَلِمَةِ فَلَمْ تُكْتَبْ في الكَلِمَتَيْنِ في المُصْحَفِ عَلى عادَةِ أكْثَرِ المَدّاتِ مِثْلِها، والقِراءاتُ رِواياتٌ ولَيْسَ خَطُّ المُصْحَفِ إلّا كالتَّذْكِرَةِ لِلْقارِئِ، ورَسْمُ المُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ سَنَّها الصَّحابَةُ الَّذِينَ عُيِّنُوا لِنَسْخِ المَصاحِفِ. وإضافَةِ (إيلافِ) إلى قُرَيْشٍ عَلى مَعْنى إضافَةِ المَصْدَرِ إلى فاعِلِهِ وحُذِفَ مَفْعُولُهُ؛ لِأنَّهُ هُنا أُطْلِقَ بِالمَعْنى الِاسْمِيِّ لِتِلْكَ العادَةِ فَهي إضافَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ اللّامِ. وقُرَيْشٌ: لَقَبُ الجَدِّ الَّذِي يَجْمَعُ بُطُونًا كَثِيرَةً، وهو فِهْرُ بْنُ مالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنانَةَ. هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّسّابِينَ وما فَوْقَ فِهْرٍ فَهم مِن كِنانَةَ، ولُقِّبَ فِهْرٌ بِلَقَبِ قُرَيْشٍ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، وهو عَلى الصَّحِيحِ تَصْغِيرُ قَرْشٍ بِفَتْحِ القافِ وسُكُونِ الرّاءِ وشِينٍ مُعْجَمَةٍ اسْمُ نَوْعٍ مِنَ الحُوتِ قَوِيٌّ يَعْدُو عَلى الحِيتانِ وعَلى السُّفُنِ. وقالَ بَعْضُ النَّسّابِينَ: إنَّ قُرَيْشًا لَقَبُ النَّضْرِ بْنِ كِنانَةَ «. ورُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قُرَيْشٍ فَقالَ: مِن ولَدِ النَّضْرِ»، وفي رِوايَةٍ أنَّهُ قالَ: «إنّا ولَدَ النَّضِرِ بْنِ كِنانَةَ لا نَقْفُوا أُمَّنا ولا نَنْتَفِي مِن أبِينا» . فَجَمِيعُ أهْلِ مَكَّةَ هم قُرَيْشٌ، وفِيهِمْ كانَتْ مَناصِبُ أهْلِ مَكَّةَ في الجاهِلِيَّةِ مُوَزَّعَةً بَيْنَهم، وكانَتْ بَنُو كِنانَةَ بِخَيْفِ مِنًى، ولَهم مَناصِبُ في أعْمالِ الحَجِّ خاصَّةً، مِنها النَّسِيءُ. وقَوْلُهُ (إيلافِهِمْ) عَطْفُ بَيانٍ مِن ﴿إيلافِ قُرَيْشٍ﴾ وهو مِن أُسْلُوبِ (ص-٥٥٧)الإجْمالِ، فالتَّفْصِيلُ لِلْعِنايَةِ بِالخَبَرِ لِيَتَمَكَّنَ في ذِهْنِ السّامِعِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السَّماواتِ﴾ [غافر: ٣٦] حِكايَةً لِكَلامِ فِرْعَوْنَ، وقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ والرِّحْلَةُ بِكَسْرِ الرّاءِ: اسْمٌ لِلِارْتِحالِ، وهو المَسِيرُ مِن مَكانٍ إلى آخَرَ بَعِيدٍ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ البَعِيرُ الَّذِي يُسافَرُ عَلَيْهِ راحِلَةً. وإضافَةُ رِحْلَةٍ إلى الشِّتاءِ مِن إضافَةِ الفِعْلِ إلى زَمانِهِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ، فَقَدْ يَكُونُ الفِعْلُ مُسْتَغْرِقًا لِزَمانِهِ مِثْلَ قَوْلِكَ: سَهَرُ اللَّيْلِ، وقَدْ يَكُونُ وقْتًا لِابْتِدائِهِ مِثْلَ صَلاةِ الظُّهْرِ، وظاهِرُ الإضافَةِ أنَّ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ مَعْرُوفَةٌ مَعْهُودَةٌ، وهُما رِحْلَتانِ. فَعَطَفَ (والصَّيْفِ) عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ: ورِحْلَةَ الصَّيْفِ، لِظُهُورِ أنَّهُ لا تَكُونُ رِحْلَةً واحِدَةً تُبْتَدَأُ في زَمانَيْنِ فَتَعَيَّنَ أنَّهُما رِحْلَتانِ في زَمَنَيْنِ. وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنْ يَكُونَ لَفْظُ (رِحْلَةَ) المُفْرَدُ مُضافًا إلى شَيْئَيْنِ لِظُهُورِ المُرادِ وأمْنِ اللَّبْسِ، وقالَ أبُو حَيّانَ: هَذا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لا يَجُوزُ إلّا في الضَّرُورَةِ. والشِّتاءُ: اسْمٌ لِفَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ المُقَسَّمَةِ إلى أرْبَعَةِ فُصُولٍ. وفَصْلُ الشِّتاءِ تِسْعَةٌ وثَمانُونَ يَوْمًا وبِضْعُ دَقائِقَ مَبْدَؤُها حُلُولُ الشَّمْسِ في بُرْجِ الجَدْيِ. ونِهايَتُها خُرُوجُ الشَّمْسِ مِن بُرْجِ الحُوتِ، وبُرُوجُهُ ثَلاثَةٌ: الجَدْيُ، والدَّلْوُ، والحُوتُ، وفَصْلُ الشِّتاءِ مُدَّةُ البَرْدِ. والصَّيْفُ: اسْمٌ لِفَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وهو زَمَنُ الحَرِّ، ومُدَّتُهُ ثَلاثَةٌ وتِسْعُونَ يَوْمًا وبِضْعُ ساعاتٍ، مَبْدَؤُها حُلُولُ الشَّمْسِ في بُرْجِ السَّرَطانِ ونِهايَتُهُ خُرُوجُ الشَّمْسِ مِن بُرْجِ السُّنْبُلَةِ، وبُرُوجُهُ ثَلاثَةٌ، السَّرَطانُ، والأسَدُ، والسُّنْبُلَةُ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: قالَ مالِكٌ: الشِّتاءُ نِصْفُ السَّنَةِ والصَّيْفُ نِصْفُها، ولَمْ أزَلْ أرى رَبِيعَةَ بْنَ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ومَن مَعَهُ لا يَخْلَعُونَ عَمائِمَهم حَتّى تَطْلُعَ الثُّرَيّا، (يَعْنِي طُلُوعَ الثُّرَيّا عِنْدَ الفَجْرِ، وذَلِكَ أوَّلُ فَصْلِ الصَّيْفِ) وهو يَوْمُ التّاسِعَ عَشَرَ مِن (بَشَنْسَ) وهو يَوْمُ خَمْسَةٍ وعِشْرِينَ مِن عَدَدِ الرُّومِ أوِ الفُرْسِ اهـ. وشَهْرُ بَشَنْسَ هو التّاسِعُ مِن أشْهُرِ السَّنَةِ القِبْطِيَّةِ المُجَزَّأةِ إلى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. (ص-٥٥٨)وشَهْرُ بَشَنْسَ يُبْتَدَأُ في اليَوْمِ السّادِسِ والعِشْرِينَ مِن شَهْرِ نِيسانَ (أبْرِيلَ) وهو ثَلاثُونَ يَوْمًا يَنْتَهِي يَوْمَ ٢٥ مِن شَهْرِ (إيارَ - مايُهْ) . وطُلُوعُ الثُّرَيّا عِنْدَ الفَجْرِ، وهو يَوْمُ تِسْعَةَ عَشَرَ مِن شَهْرِ بَشَنْسَ مِن أشْهُرِ القِبْطِ. قالَ أيِمَّةُ اللُّغَةِ: فالصَّيْفُ عِنْدَ العامَّةِ نِصْفُ السَّنَةِ وهو سِتَّةُ أشْهُرٍ، والشِّتاءُ نِصْفُ السَّنَةِ وهو سِتَّةُ أشْهُرٍ. والسَّنَةُ بِالتَّحْقِيقِ أرْبَعَةُ فُصُولٍ: الصَّيْفُ: ثَلاثَةُ أشْهُرٍ، وهو الَّذِي يُسَمِّيهِ أهْلُ العِراقِ وخُراسانَ الرَّبِيعَ، ويَلِيهِ القَيْظُ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ، وهو شِدَّةُ الحَرِّ، ويَلِيهِ الخَرِيفُ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ، ويَلِيهِ الشِّتاءُ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ. وهَذِهِ الآيَةُ صالِحَةٌ لِلِاصْطِلاحَيْنِ. واصْطِلاحُ عُلَماءَ المِيقاتِ تَقْسِيمُ السَّنَةِ إلى رَبِيعٍ وصَيْفٍ وخَرِيفٍ وشِتاءٍ، ومَبْدَأُ السَّنَةِ الرَّبِيعُ هو دُخُولُ الشَّمْسِ في بُرْجِ الحَمَلِ. وهاتانِ الرِّحْلَتانِ هُما رِحْلَةُ تِجارَةٍ ومِيرَةٍ كانَتْ قُرَيْشٌ تُجَهِّزُهُما في هَذَيْنِ الفَصْلَيْنِ مِنَ السَّنَةِ إحْداهُما في الشِّتاءِ إلى بِلادِ الحَبَشَةِ، ثُمَّ اليَمَنِ يَبْلُغُونَ بِها بِلادَ حِمْيَرَ، والأُخْرى في الصَّيْفِ إلى الشّامِ يَبْلُغُونَ بِها مَدِينَةَ بُصْرى مِن بِلادِ الشّامِ. وكانَ الَّذِينَ سَنَّ لَهم هاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ هاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنافٍ، وسَبَبُ ذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَعْتَرِيهِمْ خَصاصَةٌ، فَإذا لَمْ يَجِدْ أهْلُ بَيْتٍ طَعامًا لِقُوتِهِمْ حَمَلَ رَبُّ البَيْتِ عِيالَهُ إلى مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ خِباءً وبَقُوا فِيهِ حَتّى يَمُوتُوا جُوعًا، ويُسَمّى ذَلِكَ الِاعْتِفارَ (بِالعَيْنِ المُهْمَلَةِ وبِالرّاءِ، وقِيلَ: بِالدّالِ عِوَضَ الرّاءِ وبِفاءٍ) فَحَدَثَ أنَّ أهْلَ بَيْتٍ مِن بَنِي مَخْزُومٍ أصابَتْهم فاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَهَمُّوا بِالِاعْتِفارِ فَبَلَغَ خَبَرُهم هاشِمًا؛ لِأنَّ أحَدَ أبْنائِهِمْ كانَ تِرْبًا لِأسَدِ بْنِ هاشِمٍ، فَقامَ هاشِمٌ خَطِيبًا في قُرَيْشٍ وقالَ: إنَّكم أحْدَثْتُمْ حَدَثًا تَقِلُّونَ فِيهِ وتَكْثُرُ العَرَبُ وتَذِلُّونَ وتَعِزُّ العَرَبُ وأنْتُمْ أهْلُ حَرَمِ اللَّهِ والنّاسُ لَكم تَبَعٌ ويَكادُ هَذا الِاعْتِفارُ يَأْتِي عَلَيْكم، ثُمَّ جَمَعَ كُلَّ بَنِي أبٍ عَلى رِحْلَتَيْنِ لِلتِّجاراتِ فَما رَبِحَ الغَنِيُّ قَسَّمَهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفَقِيرِ مِن عَشِيرَتِهِ حَتّى صارَ فَقِيرُهم كَغَنِيِّهِمْ، وفِيهِ يَقُولُ مَطْرُودٌ الخُزاعِيُّ: ؎يا أيُّها الرَّجُلُ المُحَوِّلُ رَحْلَهُ ∗∗∗ هَلّا نَزَلْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنافِ ؎الآخِذُونَ العَهْدَ مِن آفاقِها ∗∗∗ والرّاحِلُونَ لِرِحْلَةِ الإيلافِ ؎والخالِطُونَ غَنِيَّهم بِفَقِيرِهِمْ ∗∗∗ حَتّى يَصِيرَ فَقِيرُهم كالكافِي (ص-٥٥٩)ولَمْ تَزَلِ الرِّحْلَتانِ مِن إيلافِ قُرَيْشٍ حَتّى جاءَ الإسْلامُ وهم عَلى ذَلِكَ. والمَعْرُوفُ المَشْهُورُ أنَّ الَّذِي سَنَّ الإيلافَ هو هاشِمٌ، وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وذَكَرَ ابْنُ العَرَبِيِّ عَنِ الهَرَوِيِّ: أنَّ أصْحابَ الإيلافِ هاشِمٌ وإخْوَتُهُ الثَّلاثَةُ الآخَرُونَ: عَبْدُ شَمْسٍ، والمُطَّلِبُ، ونَوْفَلٌ. وأنَّ واحِدًا مِنهم أخَذَ حَبْلًا - أيْ عَهْدًا - مِن أحَدِ المُلُوكِ الَّذِينَ يَمُرُّونَ في تِجارَتِهِمْ عَلى بِلادِهِمْ وهم مَلِكُ الشّامِ، ومَلِكُ الحَبَشَةِ، ومَلِكُ اليَمَنِ، ومَلِكُ فارِسَ، فَأخَذَ هاشِمٌ هَذا مِن مَلِكِ الشّامِ وهو مِلْكُ الرُّومِ، وأخَذَ عَبْدُ شَمْسٍ مِن نَجاشِيِّ الحَبَشَةِ وأخَذَ المُطَّلِبُ مِن مَلِكِ اليَمَنِ، وأخَذَ نَوْفَلٌ مِن كِسْرى مَلِكِ فارِسَ، فَكانُوا يَجْعَلُونَ جُعْلًا لِرُؤَساءِ القَبائِلِ وساداتِ العَشائِرِ يُسَمّى الإيلافَ أيْضًا، يُعْطُونَهم شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ ويَحْمِلُونَ إلَيْهِمْ مَتاعًا ويَسُوقُونَ إلَيْهِمْ إبِلًا مَعَ إبِلِهِمْ لِيَكْفُوهم مَئُونَةَ الأسْفارِ وهم يَكْفُونَ قُرَيْشًا دَفْعَ الأعْداءِ، فاجْتَمَعَ لَهم بِذَلِكَ أمْنُ الطَّرِيقِ كُلِّهِ إلى اليَمَنِ وإلى الشّامِ، وكانُوا يُسَمَّوْنَ المُجِيرِينَ. وقَدْ تَوَهَّمَ النَّقّاشُ مِن هَذا أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ الأرْبَعَةِ رِحْلَةً، فَزَعَمَ أنَّ الرِّحَلَ كانَتْ أرْبَعًا، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ. وصَدَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَإنَّ كَوْنَ أصْحابِ العُهَدِ الَّذِي كانَ بِهِ الإيلافُ أرْبَعَةً لا يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ الرِّحْلاتُ أرْبَعًا، فَإنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ. ولَعَلَّ هَؤُلاءِ الإخْوَةَ كانُوا يَتَداوَلُونَ السَّفَرَ مَعَ الرِّحْلاتِ عَلى التَّناوُبِ؛ لِأنَّهُمُ المَعْرُوفُونَ عِنْدَ القَبائِلِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْهِمُ العِيرُ، أوْ لِأنَّهم تَوارَثُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ هاشِمٍ فَكانَتْ تُضافُ العِيرُ إلى أحَدِهِمْ كَما أضافُوا العِيرَ الَّتِي تَعْرَّضَ المُسْلِمُونَ لَها يَوْمَ بَدْرٍ عِيرَ أبِي سُفْيانَ، إذْ هو يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ أهْلِ الوادِي بِمَكَّةَ. ومَعْنى الآيَةِ تَذْكِيرُ قُرَيْشٍ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إذْ يَسَّرَ لَهم ما لَمْ يَتَأتَّ لِغَيْرِهِمْ مِنَ العَرَبِ مِنَ الأمْنِ مِن عُدْوانِ المُعْتَدِينَ، وغاراتِ المُغِيرِينِ في السَّنَةِ كُلِّها بِما يَسَّرَ لَهم مِن بِناءِ الكَعْبَةِ وشِرْعَةِ الحَجِّ وأنْ جَعَلَهم عُمّارَ المَسْجِدِ الحَرامِ وجَعَلَ لَهم مَهابَةً وحُرْمَةً في نُفُوسِ العَرَبِ كُلِّهِمْ في الأشْهُرِ الحُرُمِ وفي غَيْرِها. وعِنْدَ القَبائِلِ الَّتِي تُحَرِّمُ الأشْهُرَ الحُرُمَ والقَبائِلِ الَّتِي لا تُحَرِّمُها مِثْلَ طَيِّءٍ وقُضاعَةَ وخَثْعَمَ، فَتَيَسَّرَتْ لَهُمُ الأسْفارُ في بِلادِ العَرَبِ مِن جَنُوبِها إلى شَمالِها، ولاذَ (ص-٥٦٠)بِهِمْ أصْحابُ الحاجاتِ يُسافِرُونَ مَعَهم، وأصْحابُ التِّجاراتِ يُحَمِّلُونَهم سِلَعَهم، وصارَتْ مَكَّةُ وسَطًا تُجْلَبُ إلَيْها السِّلَعُ مِن جَمِيعِ البِلادِ العَرَبِيَّةِ فَتُوَزَّعُ إلى طالِبِيها في بَقِيَّةِ البِلادِ، فاسْتَغْنى أهْلُ مَكَّةَ بِالتِّجارَةِ، إذْ لَمْ يَكُونُوا أهْلَ زَرْعٍ ولا ضَرْعٍ، إذْ كانُوا بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وكانُوا يَجْلِبُونَ أقْواتَهم فَيَجْلِبُونَ مِن بِلادِ اليَمَنِ الحُبُوبَ مِن بُرٍّ وشَعِيرٍ وذُرَةٍ وزَبِيبٍ وأدِيمٍ وثِيابٍ والسُّيُوفَ اليَمانِيَّةَ، ومِن بِلادِ الشّامِ الحُبُوبَ والتَّمْرَ والزَّيْتَ والزَّبِيبَ والثِّيابَ والسُّيُوفَ المَشْرَفِيَّةَ، زِيادَةً عَلى ما جُعِلَ لَهم مَعَ مُعْظَمِ العَرَبِ مِنَ الأشْهُرِ الحُرُمِ، وما أُقِيمَ لَهم مِن مَواسِمِ الحَجِّ وأسْواقِهِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ . فَذَلِكَ وجْهُ تَعْلِيلِ الأمْرِ بِتَوْحِيدِهِمُ اللَّهَ بِخُصُوصِ نِعْمَةِ هَذا الإيلافِ مَعَ أنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ نِعَمًا كَثِيرَةً؛ لِأنَّ هَذا الإيلافَ كانَ سَبَبًا جامِعًا لِأهَمِّ النِّعَمِ الَّتِي بِها قِوامُ بَقائِهِمْ. وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا الكَلامُ عَلى مَعْنى الفاءِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ عَلى الوُجُوهِ كُلِّها. والعِبادَةُ الَّتِي أُمِرُوا بِها عِبادَةُ اللَّهِ وحْدَهُ دُونَ إشْراكِ الشُّرَكاءِ مَعَهُ في العِبادَةِ؛ لِأنَّ إشْراكَ مَن لا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هو الحَقِيقُ بِها لَيْسَ بِعِبادَةٍ أوْ لِأنَّهم شُغِلُوا بِعِبادَةِ الأصْنامِ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ فَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلّا في أيّامِ الحَجِّ في التَّلْبِيَةِ عَلى أنَّهم قَدْ زادَ بَعْضُهم فِيها بَعْدَ قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكًا هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ. وتَعْرِيفُ (رَبَّ) بِالإضافَةِ إلى ﴿هَذا البَيْتِ﴾ دُونَ أنْ يُقالَ: فَلْيَعْبُدُوا اللَّهَ، لِما يُومِئُ إلَيْهِ لَفْظُ (رَبَّ) مِنِ اسْتِحْقاقِهِ الإفْرادَ بِالعِبادَةِ دُونَ شَرِيكٍ. وأُوثِرَ إضافَةُ (رَبَّ) إلى ﴿هَذا البَيْتِ﴾ دُونَ أنْ يُقالَ: رَبُّهم لِلْإيماءِ إلى أنَّ البَيْتَ هو أصْلُ نِعْمَةِ الإيلافِ بِأنْ أمَرَ إبْراهِيمَ بِبِناءِ البَيْتِ الحَرامِ، فَكانَ سَبَبًا لِرِفْعَةِ شَأْنِهِمْ بَيْنَ العَرَبِ. قالَ تَعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ٩٧] وذَلِكَ إدْماجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ البَيْتِ الحَرامِ وفَضْلِهِ. والبَيْتُ مَعْهُودٌ عِنْدَ المُخاطِبِينَ. (ص-٥٦١)والإشارَةُ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ بِذَلِكَ العَهْدِ كانَ كالحاضِرِ في مَقامِ الكَلامِ عَلى أنَّ البَيْتَ بِهَذا التَّعْرِيفِ بِاللّامِ صارَ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى الكَعْبَةِ ورَبُّ البَيْتِ هو اللَّهُ، والعَرَبُ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ. وأُجْرِيَ وصْفُ الرَّبِّ بِطَرِيقَةِ المَوْصُولِ ﴿الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ﴾ لِما يُؤْذِنُ بِهِ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْأمْرِ بِعِبادَةِ رَبِّ البَيْتِ الحَرامِ بِعِلَّةٍ أُخْرى زِيادَةً عَلى نِعْمَةِ تَيْسِيرِ التِّجارَةِ لَهم، وذَلِكَ مِمّا جَعَلَهم أهْلَ ثَراءٍ، وهُما نِعْمَةُ إطْعامِهِمْ وأمْنِهِمْ. وهَذِهِ إشارَةٌ إلى ما يُسِّرَ لَهم مِن وُرُودِ سُفُنِ الحَبَشَةِ في البَحْرِ إلى جَدَّةَ تَحْمِلُ الطَّعامَ لِيَبِيعُوهُ هُناكَ، فَكانَتْ قُرَيْشٌ يَخْرُجُونَ إلى جَدَّةَ بِالإبِلِ والحُمُرِ فَيَشْتَرُونَ الطَّعامَ عَلى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ، وكانَ أهْلُ تَبالَةَ وجُرَشَ مِن بِلادِ اليَمَنِ المُخْصِبَةِ يَحْمِلُونَ الطَّعامَ في مَكَّةَ، فَكانُوا في سِعَةٍ مِنَ العَيْشِ بِوَفْرِ الطَّعامِ في بِلادِهِمْ كَذَلِكَ يُسِّرَ لَهم إقامَةُ الأسْواقِ حَوْلَ مَكَّةَ في أشْهُرِ الحَجِّ وهي سُوقُ مَجَنَّةَ، وسُوقُ ذِي المَجازِ، وسُوقُ عُكاظٍ، فَتَأْتِيهِمْ فِيها الأرْزاقُ ويَتَّسِعُ العَيْشُ، وإشارَةٌ إلى ما أُلْقِيَ في نُفُوسِ العَرَبِ مِن حُرْمَةِ مَكَّةَ وأهْلِها فَلا يُرِيدُهم أحَدٌ بِتَخْوِيفٍ، وتِلْكَ دَعْوَةُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إذْ قالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ﴾ [البقرة: ١٢٦] فَلَمْ يَتَخَلَّفْ ذَلِكَ عَنْهم إلّا حِينَ دَعا عَلَيْهِمُ النَّبِيءُ ﷺ بِدَعْوَتِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ» فَأصابَتْهم مَجاعَةٌ وقَحْطٌ سَبْعَ سِنِينَ وذَلِكَ أوَّلُ الهِجْرَةِ. و(مِنَ) الدّاخِلَةُ عَلى (جُوعٍ) وعَلى (خَوْفٍ) مَعْناها البَدِلِيَّةُ، أيْ: أطْعَمَهم بَدَلًا مِنَ الجُوعِ وآمَنَهم بَدَلًا مِنَ الخَوْفِ. ومَعْنى البَدَلِيَّةِ هو أنَّ حالَةَ بِلادِهِمْ تَقْتَضِي أنْ يَكُونَ أهْلُها في جُوعٍ. فَإطْعامُهم بَدَلٌ مِنَ الجُوعِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ البِلادُ، وأنَّ حالَتَهم في قِلَّةِ العَدَدِ وكَوْنِهِمْ أهْلَ حَضَرٍ ولَيْسُوا أهْلَ بَأْسٍ ولا فُرُوسِيَّةٍ ولا شَكَّةِ سِلاحٍ تَقْتَضِي أنْ يَكُونُوا مُعَرَّضِينَ لِغاراتِ القَبائِلِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الأمْنَ في الحَرَمِ عِوَضًا عَنِ الخَوْفِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ قِلَّتُهم قالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧] . وتَنْكِيرُ (جُوعٍ) و(خَوْفٍ) لِلنَّوْعِيَّةِ لا لِلتَّعْظِيمِ، إذْ لَمْ يَحُلَّ بِهِمْ جُوعٌ وخَوْفٌ مِن قَبْلُ، قالَ مُساوِرُ بْنُ هِنْدٍ في هِجاءِ بَنِي أسَدٍ:(ص-٥٦٢) ؎زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكم قُرَيْشٌ ∗∗∗ لَهم إلْفٌ ولَيْسَ لَكم إلافُ ؎أُولَئِكَ أُومِنُوا جُوعًا وخَوْفًا ∗∗∗ وقَدْ جاعَتْ بَنُو أسَدٍ وخافُوا * * * (ص-٥٦٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الماعُونِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ في كَثِيرٍ مِنَ المَصاحِفِ وكُتُبِ التَّفْسِيرِ (سُورَةَ الماعُونِ) لِوُرُودِ لَفْظِ الماعُونِ فِيها دُونَ غَيْرِها. وسُمِّيَتْ في بَعْضِ التَّفاسِيرِ (سُورَةَ أرَأيْتَ) وكَذَلِكَ في مُصْحَفٍ مِن مَصاحِفِ القَيْرَوانِ في القَرْنِ الخامِسِ، وكَذَلِكَ عَنْوَنَها في صَحِيحِ البُخارِيِّ. وعَنْوَنَها ابْنُ عَطِيَّةَ بِـ (سُورَةِ أرَأيْتَ الَّذِي) . وقالَ الكَواشِيُّ في التَّلْخِيصِ (سُورَةُ الماعُونِ، والدِّينِ، وأرَأيْتَ)، وفي الإتْقانِ: وتُسَمّى (سُورَةَ الدِّينِ) وفي حاشِيَتَيِ الخَفاجِيِّ وسَعْدِيٍّ تُسَمّى (سُورَةَ التَّكْذِيبِ) وقالَ البِقاعِيُّ في نَظْمِ الدُّرَرِ تُسَمّى (سُورَةَ اليَتِيمِ) . وهَذِهِ سِتَّةُ أسْماءٍ. وهِيَ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الأكْثَرِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقالَ القُرْطُبِيُّ عَنْ قَتادَةَ: هي مَدَنِيَّةٌ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا. وفي الإتْقانِ: قِيلَ نَزَلَ ثَلاثٌ أوَّلُها بِمَكَّةَ أيْ: إلى قَوْلِهِ: المِسْكِينِ وبَقِيَّتُها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، أيْ: بِناءً عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون: ٤] إلى آخَرِ السُّورَةِ أُرِيدَ بِها المُنافِقُونَ وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقالَهُ هِبَةُ اللَّهِ الضَّرِيرُ وهو الأظْهَرُ. وعُدَّتِ السّابِعَةَ عَشْرَةَ في عِدادِ نُزُولِ السُّوَرِ بِناءً عَلى أنَّها مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التَّكاثُرِ وقَبْلَ سُورَةِ الكافِرُونَ. وعُدَّتْ آياتُها سِتًّا عِنْدَ مُعْظَمِ العادِّينَ: وحَكى الآلُوسِيُّ أنَّ الَّذِينَ عَدُّوا آياتِها سِتًّا أهْلُ العِراقِ (أيِ البَصْرَةِ والكُوفَةِ)، وقالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ النُّورِيُّ الصَّفاقِسِيُّ (ص-٥٦٤)فِي غَيْثِ النَّفْعِ: وآيُها سَبْعٌ حِمْصِيٌّ (أيْ: شامِيٌّ) وسِتٌّ في الباقِي. وهَذا يُخالِفُ ما قالَهُ الآلُوسِيُّ. * * * مِن مَقاصِدِ التَّعْجِيبِ مِن حالِ مَن كَذَّبُوا بِالبَعْثِ وتَفْظِيعِ أعْمالِهِمْ مِنَ الِاعْتِداءِ عَلى الضَّعِيفِ واحْتِقارِهِ والإمْساكِ عَنْ إطْعامِ المِسْكِينِ، والإعْراضِ عَنْ قَواعِدِ الإسْلامِ مِنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ لِأنَّهُ لا يَخْطُرُ بِبالِهِ أنْ يَكُونَ في فِعْلِهِ ذَلِكَ ما يَجْلِبُ لَهُ غَضَبَ اللَّهِ وعِقابَهُ.