ثم تتجه السورة الكريمة بعد ذلك إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم فترسم له ولكل عاقل طريق معاملته للخلق على وجه يقيه شر الحرج والضيق فتقول : ( خُذِ العفو . . . ) .العفو : يطلق فى اللغة على خالص الشىء وجيده ، وعلى الفضل الزائد فيه ، وعل السهل الذى لا كلفة فيه .أى : خذ ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس ، وارض منهم بما تيسر من أعمالهم وتسهل من غير كلفة . ولا تطلب منهم ما يشق عليهم ويرهقهم حتى لا ينفروا ، وكن لينا رفيقاً فى معاملة أتباعك ، فإنك ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) و ( وَأْمُرْ بالعرف ) أى : مر غيرك بالمعروف المستحسن من الأفعال ، وهو كل ما عرف حسنه فى الشرع ، فإن ذلك أجدر بالقبول من غير نكير ، فإن النفوس حين تتعود الخير الواضح الذى لا يحتاج إلى مناقشة وجدال ، يسلس قيادها ، ويسهل توجيهها .( وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين ) الذين لا يدركون قيم الأشياء والأشخاص والكلمات فيما يبدر منهم من أنواع السفاهة والإيذاء لأن الرد على أمثال هؤلاء ومناقشتهم لا تؤدى إلى خير ، ولا تنتهى إلى نتيجة . والسكوت عنهم احتزام للنفس ، واحترام للقول ، وقد يؤدى الإعراض عنهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها .وهذه الآية على قصرها تشتمل - كما قال العلماء - على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان لأخيه الإنسان ، وهى طريق قويم لكل ما تطلبه الإنسانية الفاضلة لأبنائها الأبرار ، وقد جاءت فى أعقاب حديث طويل عن أدلة وحدانية الله - تعالى - وأبطال الشرك والشركاء ، لكى تبين للناس فى كل زمان ومكان أن التحلى بمكارم الأخلاق إنما هو نتيجة لإخلاص العبادة لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد .قال القرطبى : هذه الآية من ثلاث كلمات ، تضمنت قواعد الشريعة فى المأمورات والمنهيات .فقوله ( خُذِ العفو ) دخل فيه صلة القاطعين والعفو عن المذنبين ، والرفق بالمؤمنين ، وغير ذلك من أخلاق المطيعين . ودخل فى قوله ( وَأْمُرْ بالعرف ) صلة الأرحام ، وتقوى الله فى الحلال والحرام ، وغض الأبصار ، والاستعداد لدار القرار .وفى قوله ( وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين ) الحض على التعلق بالعلم ، والإعراض عن أهل الظلم ، والتنزه عن منازعة السفهاء ، ومساواة الجهلة الأغبياء ، وغير ذلك من الأخلاق المجيدة والأفعال الرشيدة " .