You are reading a tafsir for the group of verses 75:23 to 75:25
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
( ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ ﴿تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾
المُرادُ بِـ (يَوْمَئِذٍ) يَوْمُ القِيامَةِ الَّذِي تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ بِمِثْلِ هَذا ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ (﴿يَقُولُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ أيْنَ المَفَرُّ﴾ [القيامة: ١٠]) وأُعِيدَ مَرَّتَيْنِ.
والجُمْلَةُ المُقَدَّرَةُ المُضافُ إلَيْها (إذْ)، والمُعَوَّضُ عَنْها التَّنْوِينُ تَقْدِيرُها: يَوْمَ إذْ بَرَقَ البَصَرُ.
وقَدْ حَصَلَ مِن هَذا تَخَلُّصٌ إلى إجْمالِ حالِ النّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ بَيْنَ أهْلِ سَعادَةٍ وأهْلِ شَقاوَةٍ.
فالوُجُوهُ النّاضِرَةُ وُجُوهُ أهْلِ السَّعادَةِ والوُجُوهُ الباسِرَةُ وُجُوهُ أهْلِ الشَّقاءِ، وذَلِكَ بَيِّنٌ مِن كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ.
وقَدْ عَلِمَ النّاسُ المَعْنِيَّ بِالفَرِيقَيْنِ مِمّا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ القُرْآنِ كَقَوْلِهِ في سُورَةِ عَبَسَ (﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ [عبس: ٤٠]) فَعُلِمَ أنَّ أصْلَ أسْبابِ السَّعادَةِ الإيمانُ بِاللَّهِ وحْدَهُ وتَصْدِيقُ رَسُولِهِ ﷺ والإيمانُ بِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وأنَّ أصْلَ أسْبابِ الشَّقاءِ الإشْراكُ بِاللَّهِ وتَكْذِيبُ الرَّسُولِ ﷺ ونَبْذُ ما جاءَ بِهِ. وقَدْ تَضَمَّنَ صَدْرُ هَذِهِ السُّورَةِ ما يُنْبِئُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ (﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ﴾ [القيامة: ٣]) وقَوْلِهِ (﴿بَلْ يُرِيدُ الإنْسانُ لِيَفْجُرَ أمامَهُ﴾ [القيامة: ٥]) .
وتَنْكِيرُ (وُجُوهٌ) لِلتَّنْوِيعِ والتَّقْسِيمِ كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧]) وقَوْلِ الشّاعِرِ وهو مِن أبْياتِ كِتابِ الآدابِ ولَمْ يَعْزُهُ ولا عَزاهُ صاحِبُ العُبابِ في شَرْحِهِ:
؎فَيَوْمٌ عَلَيْنا ويَوْمٌ لَنَـا ويَوْمٌ نُساءُ ويَوْمٌ نُسَرْ
وقَوْلِ أبِي الطَّيِّبِ:(ص-٣٥٣)
؎فَيَوْمًا بِخَيْلٍ تَطْرُدُ الرُّومَ عَنْهُـمُ ∗∗∗ ويَوْمٌ بِجُودٍ تَطْرُدُ الفَقْرَ والجَدْبا
فالوُجُوهُ النّاضِرَةُ المَوْصُوفَةُ بِالنَّضْرَةِ - بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ الضّادِ - وهي حُسْنُ الوَجْهِ مِن أثَرِ النِّعْمَةِ والفَرَحِ، وفِعْلُهُ كَنَصَرَ وكَرُمَ وفَرِحَ، ولِذَلِكَ يُقالُ: ناضِرٌ ونَضِيرٌ ونَضِرٌ، وكُنِّيَ بِنَضْرَةِ الوُجُوهِ عَنْ فَرَحِ أصْحابِها ونَعِيمِهِمْ قالَ تَعالى في أهْلِ السَّعادَةِ (﴿تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: ٢٤]) لِأنَّ ما يَحْصُلُ في النَّفْسِ مِنَ الِانْفِعالاتِ يَظْهَرُ أثَرُهُ.
وأخْبَرَ عَنْها خَبَرًا ثانِيًا بِقَوْلِهِ (﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾) وظاهِرُ لَفْظِ (ناظِرَةٌ) أنَّهُ مِن نَظَرَ بِمَعْنى: عايَنَ بِبَصَرِهِ إعْلانًا بِتَشْرِيفِ تِلْكَ الوُجُوهِ أنَّها تَنْظُرُ إلى جانِبِ اللَّهِ تَعالى نَظَرًا خاصًّا لا يُشارِكُها فِيهِ مَن يَكُونُ دُونَ رُتَبِهِمْ، فَهَذا مَعْنى الآيَةِ بِإجْمالِهِ ثابِتٌ بِظاهِرِ القُرْآنِ وقَدْ أيَّدَتْها الأخْبارُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ .
فَقَدْ رَوى البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ أُناسًا قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرى رَبَّنا يَوْمَ القِيامَةِ ؟ قالَ: هَلْ تُضارُّونَ في رُؤْيَةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ إذا كانَتْ صَحْوًا ؟ قُلْنا: لا، قالَ: فَإنَّكم لا تُضارُّونَ في رُؤْيَةِ رَبِّكم يَوْمَئِذٍ إلّا كَما تُضارُّونَ في رُؤْيَتِهِما» .
وفِي رِوايَةٍ ”«فَإنَّكم تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» “ وساقَ الحَدِيثَ في الشَّفاعَةِ.
ورَوى البُخارِيُّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «كُنّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيءِ ﷺ إذْ نَظَرَ إلى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ قالَ: إنَّكم سَتَرَوْنَ رَبَّكم كَما تَرَوْنَ هَذا القَمَرَ لا تُضامُونَ في رُؤْيَتِهِ ورُبَّما قالَ ”سَتَرَوْنَ رَبَّكم عِيانًا“» .
ورَوى مُسْلِمٌ عَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنانٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ قالَ «إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أزِيدُكم ؟ فَيَقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ وتُنْجِنا مِنَ النّارِ، قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ فَما يُعْطَوْنَ شَيْئًا أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ» .
فَدَلالَةُ الآيَةِ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ بِأبْصارِهِمْ رُؤْيَةً مُتَعَلِّقَةً بِذاتِ اللَّهِ عَلى الإجْمالِ دَلالَةٌ ضِمْنِيَّةٌ لِاحْتِمالِها تَأْوِيلاتٍ تَأوَّلَها المُعْتَزِلَةُ بِأنَّ المَقْصُودَ رُؤْيَةُ جَلالِهِ وبَهْجَةُ قُدُسِهِ الَّتِي لا تُخَوَّلُ رُؤْيَتُها لِغَيْرِ أهْلِ السَّعادَةِ.
(ص-٣٥٤)ويُلْحَقُ هَذا بِمُتَشابِهِ الصِّفاتِ وإنْ كانَ مُقْتَضاهُ لَيْسَ إثْباتَ صِفَةٍ، ولَكِنَّهُ يُؤَوَّلُ إلى الصِّفَةِ ويَسْتَلْزِمُها لِأنَّهُ آيِلٌ إلى اقْتِضاءِ جِهَةٍ لِلذّاتِ، ومِقْدارٍ يُحاطُ بِجَمِيعِهِ أوْ بِبَعْضِهِ، إذا كانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً فَلا جَرَمَ أنْ يُعَدَّ الوَعْدُ بِرُؤْيَةِ أهْلِ الجَنَّةِ رَبَّهم تَعالى مِن قَبِيلِ المُتَشابِهِ.
ولِعُلَماءِ الإسْلامِ في ذَلِكَ أفْهامٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَأمّا صَدْرُ الأُمَّةِ وسُلَفُها فَإنَّهم جَرَوْا عَلى طَرِيقَتِهِمُ الَّتِي تَخَلَّقُوا بِها في سِيرَةِ النَّبِيءِ ﷺ مِنَ الإيمانِ بِما ورَدَ مِن هَذا القَبِيلِ عَلى إجْمالِهِ، وصَرْفِ أنْظارِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ في تَشْخِيصِ حَقِيقَتِهِ وإدْراجِهِ تَحْتَ أحَدِ أقْسامِ الحُكْمِ العَقْلِيِّ، فَقَدْ سَمِعُوا هَذا ونَظائِرَهُ كُلَّها أوْ بَعْضَها أوْ قَلِيلًا مِنها، فِيما شَغَلُوا أنْفُسَهم بِهِ ولا طَلَبُوا تَفْصِيلَهُ، ولَكِنَّهُمُ انْصَرَفُوا إلى ما هو أحَقُّ بِالعِنايَةِ وهو التَّهَمُّمُ بِإقامَةِ الشَّرِيعَةِ وبَثِّها وتَقْرِيرِ سُلْطانِها، مَعَ الجَزْمِ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى عَنِ اللَّوازِمِ العارِضَةِ لِظَواهِرَ لِتِلْكَ الصِّفاتِ، جاعِلِينَ إمامَهُمُ المَرْجُوعَ إلَيْهِ في كُلِّ هَذا قَوْلَهُ تَعالى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١])، أوْ ما يُقارِبُ هَذا مِن دَلائِلِ التَّنْزِيهِ الخاصَّةِ بِالتَّنْزِيهِ عَنْ بَعْضِ ما ورَدَ الوَصْفُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ (﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣]) بِالنِّسْبَةِ إلى مَقامِنا هَذا، مَعَ اتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّ عَدَمَ العِلْمِ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ لا يَقْدَحُ في عَقِيدَةِ الإيمانِ، فَلَمّا نَبَعَ في عُلَماءِ الإسْلامِ تَطَلَّبَ مَعْرِفَةَ حَقائِقِ الأشْياءِ وألْجَأهُمُ البَحْثُ العِلْمِيُّ إلى التَّعَمُّقِ في مَعانِي القُرْآنِ ودَقائِقِ عِباراتِهِ وخُصُوصِيّاتِ بَلاغَتِهِ، لَمْ يَرَوْا طَرِيقَةَ السَّلَفِ مُقْنِعَةً لِأفْهامِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ الخَلَفِ لِأنَّ طَرِيقَتَهم في العِلْمِ طَرِيقَةُ تَمْحِيصٍ وهي اللّائِقَةُ بِعَصْرِهِمْ، وقارِنُ ذَلِكَ ما حَدَثَ في فِرَقِ الأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ مِنَ النِحَلِ الِاعْتِقادِيَّةِ، وإلْقاءِ شُبَهِ المَلاحِدَةِ مِنَ المُنْتَمِينَ إلى الإسْلامِ وغَيْرِهِمْ وحَدا بِهِمْ ذَلِكَ إلى الغَوْصِ والتَّعَمُّقِ لِإقامَةِ المَعارِفِ عَلى أعْمِدَةٍ لا تَقْبَلُ التَّزَلْزُلَ، ولِدَفْعِ شُبَهِ المُتَشَكِّكِينَ ورَدِّ مَطاعِنِ المُلْحِدِينَ، فَسَلَكُوا مَسالِكَ الجَمْعِ بَيْنَ المُتَعارِضاتِ مِن أقْوالٍ ومَعانٍ وإقْرارِ كُلِّ حَقِيقَةٍ في نِصابِها، وذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ المُقْتَضِي ويُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ.
فَسَلَكَتْ جَماعاتٌ مَسالِكَ التَّأْوِيلِ الإجْمالِيِّ بِأنْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ المُتَشابِهاتِ عَلى إجْمالِها ويُوقِنُوا بِالتَّنْزِيهِ عَنْ ظَواهِرِها ولَكِنَّهم لا يَفْصِلُونَ صَرْفَها عَنْ ظَواهِرِها بَلْ يُجْمِلُونَ التَّأْوِيلَ وهَذِهِ الطّائِفَةُ تُدْعى السَّلَفِيَّةَ لِقُرْبِ طَرِيقَتِها مِن طَرِيقَةِ السَّلَفِ في المُتَشابِهاتِ، وهَذِهِ الجَماعاتُ مُتَفاوِتَةٌ في مِقْدارِ تَأْصِيلِ أُصُولِها تَفاوُتًا جَعَلَها فِرَقًا فَمِنهُمُ الحَنابِلَةُ، والظّاهِرِيَّةُ، الخَوارِجُ الأقْدَمُونَ غَيْرَ الَّذِينَ التَزَمُوا طَرِيقَةَ المُعْتَزِلَةِ.
(ص-٣٥٥)ومِنهم أهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَ الأشْعَرِيِّ مِثْلَ المالِكِيَّةِ وأهْلِ الحَدِيثِ الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِظَواهِرِ ما جاءَتْ بِهِ الأخْبارُ الصِّحاحُ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأنَّها مُؤَوَّلَةٌ عَنْ ظَواهِرِها بِوَجْهِ الإجْمالِ. وقَدْ غَلا قَوْمٌ مِنَ الآخِذِينَ بِالظّاهِرِ مِثْلَ الكَرامِيَّةِ والمُشَبِّهَةِ فَأُلْحِقُوا بِالصِّنْفِ الأوَّلِ.
ومِنهم فِرَقُ النُّظّارِينَ في التَّوْفِيقِ بَيْنَ قَواعِدِ العُلُومِ العَقْلِيَّةِ وبَيْنَ ما جاءَتْ بِهِ أقْوالُ الكِتابِ والسُّنَّةِ وهَؤُلاءِ هُمُ المُعْتَزِلَةُ، والأشاعِرَةُ، والماتُرِيدِيَّةُ.
فَأقْوالُهم في رُؤْيَةِ أهْلِ الجَنَّةِ رَبَّهم ناسِجَةٌ عَلى هَذا المِنوالِ:
فالسَّلَفُ أثْبَتُوها دُونَ بَحْثٍ والمُعْتَزِلَةُ نَفَوْها وتَأوَّلُوا الأدِلَّةَ بِنَحْوِ المَجازِ والِاشْتِراكِ، وتَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ لِمُعارَضَتِها الأُصُولَ القَطْعِيَّةَ عِنْدَهم فَرَجَّحُوا ما رَأوْهُ قَطْعِيًّا وألْغَوْها.
والأشاعِرَةُ أثْبَتُوها ورامُوا الِاسْتِدْلالَ لَها بِأدِلَّةٍ تُفِيدُ القَطْعَ وتُبْطِلُ قَوْلَ المُعْتَزِلَةِ ولَكِنَّهم لَمْ يَبْلُغُوا مِن ذَلِكَ المَبْلَغَ المَطْلُوبَ.
وما جاءَ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِن حُجاجٍ لَمْ يَكُنْ سالِمًا مِنِ اتِّجاهِ نُقُوضٍ ومُنُوعٍ ومُعارَضاتٍ، وكَذَلِكَ ما أثارَهُ كُلُّ فَرِيقٍ عَلى مُخالِفِيهِ مِن مُعارَضاتٍ لَمْ يَكُنْ خالِصًا مِنِ اتِّجاهِ مُنُوعٍ مُجَرَّدَةٍ أوْ مَعَ المُسْتَنَداتِ، فَطالَ الأخْذُ والرَّدُّ. ولَمْ يَحْصُلْ طائِلٌ ولا انْتَهى إلى حَدٍّ.
ويَحْسُنُ أنْ نُفَوِّضَ كَيْفِيَّتَها إلى عِلْمِ اللَّهِ تَعالى كَغَيْرِها مِنَ المُتَشابِهِ الرّاجِعِ إلى شُئُونِ الخالِقِ تَعالى.
وهَذا مَعْنى قَوْلِ سَلَفِنا أنَّها رُؤْيَةٌ بِلا كَيْفٍ وهي كَلِمَةُ حَقٍّ جامِعَةٌ، وإنِ اشْمَأزَّ مِنها المُعْتَزِلَةُ.
هَذا ما يَتَعَلَّقُ بِدَلالَةِ الآيَةِ عَلى رُؤْيَةِ أهْلِ الجَنَّةِ رَبَّهم وأمّا ما يَتَعَلَّقُ بِأصْلِ جَوازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى فَقَدْ مَضى القَوْلُ فِيها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿قالَ لَنْ تَرانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣]) في سُورَةِ الأعْرافِ.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ مِن قَوْلِهِ (إلى رَبِّها) عَلى عامِلِهِ لِلِاهْتِمامِ بِهَذا العَطاءِ العَجِيبِ ولَيْسَ لِلِاخْتِصاصِ لِأنَّهم لَيَرَوُنَّ بَهِجاتٍ كَثِيرَةً في الجَنَّةِ.
(ص-٣٥٦)وبَيْنَ (ناضِرَةٌ) و(ناظِرَةٌ) جِناسٌ مُحَرَّفٌ قَرِيبٌ مِنَ التّامِّ.
وسَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ في قَوْلِهِ (﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢]) أنَّها أُرِيدَ بِها التَّفْصِيلَ والتَّقْسِيمَ لِمُقابَلَتِهِ بُقُولِهِ (﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾)، عَلى حَدِّ قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎فَيَوْمٌ عَلَيْنا ويَوْمٌ لَنَـا ∗∗∗ ويَوْمٌ نُساءُ ويَوْمٌ نُسَر
وأمّا الوُجُوهُ الباسِرَةُ فَنَوْعٌ ثانٍ مِن وُجُوهِ النّاسِ يَوْمَئِذٍ هي وُجُوهُ أهْلِ الشَّقاءِ. وأُعِيدَ لَفْظُ (يَوْمَئِذٍ) تَأْكِيدًا لِلِاهْتِمامِ بِالتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ اليَوْمِ.
و(باسِرَةٌ): كالِحَةٌ مِن تَيَقُّنِ العَذابِ، وتَقَدَّمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ﴾ [المدثر: ٢٢]) في سُورَةِ المُدَّثِّرِ.
فَجُمْلَةُ (﴿تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾) اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِبَيانِ سَبَبِ بُسُورِها.
وفاقِرَةٌ: داهِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وهو نائِبُ فاعِلٍ (يُفْعَلَ بِها) ولَمْ يَقْتَرِنِ الفِعْلُ بِعَلامَةِ التَّأْنِيثِ لِأنَّ مَرْفُوعَهُ لَيْسَ مُؤَنَّثًا حَقِيقِيًّا، مَعَ وُقُوعِ الفَصْلِ بَيْنَ الفِعْلِ ومَرْفُوعِهِ، وكِلا الأمْرَيْنِ يُسَوِّغُ تَرْكَ عَلامَةِ التَّأْنِيثِ. وإفْرادٌ (فاقِرَةٌ) إفْرادُ الجِنْسِ، أيْ نَوْعًا عَظِيمًا مِنَ الدّاهِيَةِ.
والمَعْنى: أنَّهم أيْقَنُوا بِأنْ سَيُلاقُوا دَواهِيَ لا يُكْتَنَهُ كُنْهُها.