You are reading a tafsir for the group of verses 6:8 to 6:9
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
﴿وقالُوا لَوْلا أنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ ولَوْ أنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ﴾ ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ﴾ . عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا﴾ [الأنعام: ٧] لِأنَّ هَذا خَبَرٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ وعِنادِهِمْ، وما قَبْلَهُ بَيانٌ لِعَدَمِ جَدْوى مُحاوَلَةِ ما يُقْلِعُ عِنادَهم، فَذَلِكَ فَرْضٌ بِإنْزالِ كِتابٍ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ فِيهِ تَصْدِيقُ النَّبِيءِ ﷺ وهَذا حِكايَةٌ لِاقْتِراحٍ مِنهم آيَةً يُصَدِّقُونَهُ بِها. وفي سِيرَةِ ابْنِ إسْحاقَ أنَّ هَذا القَوْلَ واقِعٌ، وأنَّ مِن جُمْلَةِ مَن قالَ هَذا زَمْعَةَ بْنَ الأسْوَدِ، والنَّضْرَ بْنَ الحارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وعَبْدَةَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ؛ وأُبَيَّ (ص-١٤٣)بْنَ خَلَفٍ، والعاصِي بْنَ وائِلٍ، والوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ، وعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، ومَن مَعَهم، أرْسَلُوا إلى النَّبِيءِ ﷺ: سَلْ رَبَّكَ أنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِما تَقُولُ ويُراجِعُنا عَنْكَ. فَقَوْلُهُ: ﴿وقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ أيْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نُشاهِدُهُ ويُخْبِرُنا بِصِدْقِهِ، لِأنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي يَتَطَلَّبُهُ المُعانِدُ. أمّا نُزُولُ المَلَكِ الَّذِي لا يَرَوْنَهُ فَهو أمْرٌ واقِعٌ، وفَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعالى في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ٧] في سُورَةِ الفُرْقانِ. والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنعام: ٢٥] وإنْ كانَ قالَهُ بَعْضُهم، لِأنَّ الجَمِيعَ قائِلُونَ بِقَوْلِهِ ومُوافِقُونَ عَلَيْهِ. ولَوْلا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنى (هَلّا) . والتَّحْضِيضُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيزِ عَلى حَسَبِ اعْتِقادِهِمْ. وضَمِيرُ (عَلَيْهِ) لِلنَّبِيءِ ﷺ . ومُعادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ المَقامِ، لِأنَّهُ إذا جاءَ في الكَلامِ ضَمِيرٌ غائِبٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعادٌ وكانَ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ مَن هو صاحِبُ خَبَرٍ أوْ قِصَّةٍ يَتَحَدَّثُ النّاسُ بِها - تَعَيَّنَ أنَّهُ المُرادُ مِنَ الضَّمِيرِ. ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ في قَتْلِ ابْنِ صَيّادٍ «إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وإلّا يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ في قَتْلِهِ» . يُرِيدُ مِن ضَمائِرِ الغَيْبَةِ الثَّلاثَةِ الأُولى الدَّجّالَ لِأنَّ النّاسَ كانُوا يَتَحَدَّثُونَ أنَّ ابْنَ صَيّادٍ هو الدَّجّالُ. ومِثْلُ الضَّمِيرِ اسْمُ الإشارَةِ إذا لَمْ يُذْكَرْ في الكَلامِ اسْمٌ يُشارُ إلَيْهِ. كَما ورَدَ في حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ أنَّهُ قالَ لِأخِيهِ عِنْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: اذْهَبْ فاسْتَعْلِمْ لَنا عِلْمَ هَذا الرَّجُلِ. وفي حَدِيثِ سُؤالِ القَبْرِ «فَيُقالُ لَهُ (أيْ لِلْمَقْبُورِ): ما عَلَّمَكَ بِهَذا الرَّجُلِ» يَعْنِي أنَّ هَذا قَوْلُهم فِيما بَيْنَهم، أوْ قَوْلُهم لِلَّذِي أرْسَلُوهُ إلى النَّبِيءِ أنْ يَسْألَ اللَّهَ أنْ يَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا. وقَدْ شافَهُوهُ بِهِ مَرَّةً أُخْرى فِيما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم وقالُوا: ﴿يا أيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] ﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [الحجر: ٧] فَإنَّ (لَوْما) أُخْتُ (لَوْلا) في إفادَةِ التَّحْضِيضِ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ﴾ مَعْناهُ: لَوْ أنْزَلَنا مَلَكًا عَلى الصِّفَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوها يُكَلِّمُهم لَقُضِيَ الأمْرُ، أيْ أمْرُهم؛ فاللّامُ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السِّياقِ. أيْ لَقُضِيَ أمْرُ عَذابِهِمُ الَّذِي يَتَهَدَّدُهم بِهِ. (ص-١٤٤)ومَعْنى قُضِيَ تُمِّمَ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ﴾؛ ذَلِكَ أنَّهُ لا تَنْزِلُ مَلائِكَةٌ غَيْرُ الَّذِينَ سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِلْأُمُورِ المُعْتادَةِ مِثْلَ الحَفَظَةِ، ومَلَكِ المَوْتِ، والمَلَكِ الَّذِي يَأْتِي بِالوَحْيِ؛ إلّا مَلائِكَةٌ تَنْزِلُ لِتَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالنَّصْرِ عَلى مَن يُكَذِّبُهم، مِثْلَ المَلائِكَةِ الَّتِي نَزَلَتْ لِنَصْرِ المُؤْمِنِينَ في بَدْرٍ. ولا تَنْزِلُ المَلائِكَةُ بَيْنَ القَوْمِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ إلّا لِإنْزالِ العَذابِ بِهِمْ، كَما نَزَلَتِ المَلائِكَةُ في قَوْمِ لُوطٍ. فَمُشْرِكُو مَكَّةَ لَمّا سَألُوا النَّبِيءَ أنْ يُرِيَهم مَلَكًا مَعَهُ ظَنُّوا مُقْتَرَحَهم تَعْجِيزًا، فَأنْبَأهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُمُ اقْتَرَحُوا أمْرًا لَوْ أُجِيبُوا إلَيْهِ لَكانَ سَبَبًا في مُناجَزَةِ هَلاكِهِمُ الَّذِي أمْهَلَهم إلَيْهِ فِيهِ، رَحْمَةً مِنهُ. ولَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ فَطَرَ المَلائِكَةَ عَلى الصَّلابَةِ والغَضَبِ لِلْحَقِّ بِدُونِ هَوادَةٍ، وجَعَلَ الفِطْرَةَ المَلَكِيَّةَ سَرِيعَةً لِتَنْفِيذِ الجَزاءِ عَلى وفْقِ العَمَلِ، كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ [الأنبياء: ٢٨]، فَلِذَلِكَ حَجَزَهُمُ اللَّهُ عَنِ الِاتِّصالِ بِغَيْرِ العِبادِ المُكْرَمِينَ الَّذِينَ شابَهَتْ نُفُوسُهُمُ الإنْسانِيَّةُ النُّفُوسَ المَلَكِيَّةَ، ولِذَلِكَ حَجَبَهُمُ اللَّهُ عَنِ النُّزُولِ إلى الأرْضِ إلّا في أحْوالٍ خاصَّةٍ، كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿وما نَتَنَزَّلُ إلّا بِأمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤]، وكَما قالَ: ﴿ما تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الحجر: ٨] فَلَوْ أنَّ اللَّهَ أرْسَلَ مَلائِكَةً في الوَسَطِ البَشَرِيِّ لَما أمْهَلُوا أهْلَ الضَّلالِ والفَسادِ ولَناجَزُوهم جَزاءَ العَذابِ، ألا تَرى أنَّ المَلائِكَةَ الَّذِينَ أرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِقَوْمِ لُوطٍ لَمّا لَقُوا لُوطًا ﴿قالُوا يا لُوطُ إنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ٨١] . ولَمّا جادَلَهم إبْراهِيمُ في قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَ أنْ بَشَّرُوهُ واسْتَأْنَسَ بِهِمْ ﴿قالُوا يا إبْراهِيمُ أعْرِضْ عَنْ هَذا إنَّهُ قَدْ جاءَ أمْرُ رَبِّكَ﴾ [هود: ٧٥] وهو نُزُولُ المَلائِكَةِ؛ فَلَيْسَ المَلائِكَةُ تُصْرَفُ في غَيْرِ ما وُجِّهُوا إلَيْهِ. فَمَعْنى الآيَةِ أنَّ ما اقْتَرَحُوهُ لَوْ وقَعَ لَكانَ سَيِّئَ المَغَبَّةِ عَلَيْهِمْ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. ولَيْسَ المُرادُ أنَّ سَبَبَ عَدَمِ إنْزالِ المَلَكِ رَحْمَةً بِهِمْ بَلْ لِأنَّ اللَّهَ ما كانَ لِيُظْهِرَ آياتِهِ عَنِ اقْتِراحِ الضّالِّينَ، إذْ لَيْسَ الرَّسُولُ ﷺ بِصَدَدِ التَّصَدِّي لِرَغَباتِ النّاسِ مِثْلَ ما يَتَصَدّى الصّانِعُ أوِ التّاجِرُ، ولَوْ أُجِيبَتْ رَغَباتُ بَعْضِ المُقْتَرِحِينَ لَرامَ كُلُّ مَن عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ أنْ تَظْهَرَ لَهُ آيَةٌ حَسَبَ مُقْتَرَحِهِ فَيَصِيرُ الرَّسُولُ ﷺ مُضَيِّعًا مُدَّةَ الإرْشادِ وتَلْتَفُّ عَلَيْهِ النّاسُ التِفافَهم عَلى المُشَعْوِذِينَ، وذَلِكَ يُنافِي حُرْمَةَ (ص-١٤٥)النُّبُوءَةِ، ولَكِنَّ الآياتِ تَأْتِي عَنْ مَحْضِ اخْتِيارٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى دُونَ مَسْألَةٍ. وإنَّما أجابَ اللَّهُ اقْتِراحَ الحَوارِيِّينَ إنْزالَ المائِدَةِ لِأنَّهم كانُوا قَوْمًا صالِحِينَ، وما أرادُوا إلّا خَيْرًا. ولَكِنَّ اللَّهَ أنْبَأهم أنَّ إجابَتَهم لِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أُخْرى وهي تَسْتَتْبِعُ نَفْعًا لَهم مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَكانُوا أحْرِياءَ بِأنْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيما فِيهِ اسْتِبْقاءٌ لَهم لَوْ كانُوا مُوَفَّقِينَ. وسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ [الأنعام: ٣٧] زِيادَةُ بَيانٍ لِهَذا. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن فَسَّرَ ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾ [يوسف: ٤١] بِمَعْنى هَلاكِهِمْ مِن هَوْلِ رُؤْيَةِ المَلَكِ في صُورَتِهِ الأصْلِيَّةِ ولَيْسَ هَذا بِلازِمٍ لِأنَّهم لَمْ يَسْألُوا ذَلِكَ. ولا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ مَلَكِيَّتِهِ عِنْدَهم عَلى رُؤْيَةِ صُورَةٍ خارِقَةٍ لِلْعادَةِ، بَلْ يَكْفِي أنْ يَرَوْهُ نازِلًا مِنَ السَّماءِ مَثَلًا حَتّى يُصاحِبَ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حِينَ يَدْعُوهم إلى الإسْلامِ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الآتِي ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾ . وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ﴾، فَهو جَوابٌ ثانٍ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ، فِيهِ ارْتِقاءٌ في الجَوابِ، وذَلِكَ أنَّ مُقْتَرَحَهم يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْناءَ عَنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنَ البَشَرِ لِأنَّهُ إذا كانَتْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ البَشَرِيِّ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ عِنْدَهم إلّا إذا قارَنَهُ مَلَكٌ يَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا كَما قالُوهُ وحُكِيَ عَنْهم في غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ - فَقَدْ صارَ مَجِيءُ رَسُولٍ بَشَرِيٍّ إلَيْهِمْ غَيْرَ مُجْدٍ لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِالمَلَكِ الَّذِي يُصاحِبُهُ، عَلى أنَّهم صَرَّحُوا بِهَذا اللّازِمِ فِيما حُكِيَ عَنْهم في غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأنْزَلَ مَلائِكَةً﴾ [فصلت: ١٤]، فَجاءَ هَذا الجَوابُ الثّانِي صالِحًا لَرَدَّ الِاقْتِراحَيْنِ، ولَكِنَّهُ رُوعِيَ في تَرْكِيبِ ألْفاظِهِ ما يُناسِبُ المَعْنى اللّازِمَ لِكَلامِهِمْ فَجِيءَ بِفِعْلِ (جَعَلْنا) المُقْتَضِي تَصْيِيرَ شَيْءٍ آخَرَ أوْ تَعْوِيضَهُ بِهِ. فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عائِدٌ إلى الرَّسُولِ الَّذِي عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾، أيْ ولَوِ اكْتَفَيْنا عَنْ إرْسالِ رَسُولٍ مِن نَوْعِ البَشَرِ وجَعَلْنا الرَّسُولَ إلَيْهِمْ مَلَكًا لَتَعَيَّنَ أنْ نُصَوِّرَ ذَلِكَ المَلَكَ بِصُورَةِ رَجُلٍ، لِأنَّهُ لا مَحِيدَ عَنْ تَشَكُّلِهِ بِشَكْلٍ لِتَمَكُّنِ إحاطَةِ أبْصارِهِمْ بِهِ وتَحَيُّزِهِ، فَإذا تَشَكَّلَ فَإنَّما يَتَشَكَّلُ في صُورَةِ رَجُلٍ لِيُطِيقُوا رُؤْيَتَهُ وخِطابَهُ، وحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أمْرُهُ كَما التَبَسَ عَلَيْهِمْ أمْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ . (ص-١٤٦)فَجُمْلَةُ ﴿ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ﴾ مِن تَمامِ الدَّلِيلِ والحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ جَدْوى إرْسالِ المَلَكِ. واللَّبْسُ: خَلْطٌ يَعْرِضُ في الصِّفاتِ والمَعانِي بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ٤٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَدْ عُدِّيَ هُنا بِحَرْفِ (عَلى) لِأنَّ المُرادَ لَبْسٌ فِيهِ غَلَبَةٌ لِعُقُولِهِمْ. والمَعْنى: ولَلَبَسْنا عَلى عُقُولِهِمْ، فَشَكُّوا في كَوْنِهِ مَلَكًا فَكَذَّبُوهُ، إذْ كانَ دَأْبُ عُقُولِهِمْ تَطَلُّبَ خَوارِقِ العاداتِ اسْتِدْلالًا بِها عَلى الصِّدْقِ، وتَرْكَ إعْمالِ النَّظَرِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ صِدْقُ الصّادِقِ. و(ما) في قَوْلِهِ: ﴿ما يَلْبِسُونَ﴾ مَصْدَرِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، والمَعْنى عَلى التَّشْبِيهِ، أيْ ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ لَبْسَهُمُ الَّذِي وقَعَ لَهم حِينَ قالُوا: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ أيْ مِثْلَ لَبْسِهِمُ السّابِقِ الَّذِي عَرَضَ لَهم في صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وفِي الكَلامِ احْتِباكٌ لِأنَّ كِلا اللَّبْسَيْنِ هو بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعالى، لِأنَّهُ حَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ. فالتَّقْدِيرُ: ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ في شَأْنِ المَلَكِ فَيَلْبِسُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ في شَأْنِهِ كَما لَبَسْنا عَلَيْهِمْ في شَأْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ إذْ يَلْبِسُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ في شَأْنِهِ. وهَذا الكَلامُ كُلُّهُ مَنظُورٌ فِيهِ إلى حَمْلِ اقْتِراحِهِمْ عَلى ظاهِرِ حالِهِ مِن إرادَتِهِمُ الِاسْتِدْلالَ، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا عَنْ كَلامِهِمْ إرْخاءً لِلْعِنانِ، وإلّا فَإنَّهم ما أرادُوا بِكَلامِهِمْ إلّا التَّعْجِيزَ والِاسْتِهْزاءَ، ولِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدُ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ﴾ [الأنعام: ١٠] الآيَةَ.

Maximize your Quran.com experience!
Start your tour now:

0%