( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ) الآية ، قال أهل التفسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان ، وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته ، وكان له كهان ومنجمون ، فقالوا له : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ، يقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام .
وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ، ففزع من ذلك فزعا شديدا ، فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك ، فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة ، فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه ، قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة ، وأمر بعزل الرجال عن النساء ، وجعل على كل عشرة رجال رجلا فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها ، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض ، فإذا طهرت حال بينهما ، فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام .
وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية ، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام ، فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية حديثة السن ، لم يعرف الحبل في بطنها .
وقال السدي : خرج نمرود بالرجال إلى معسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود أن يكون ، فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة ، فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلا آزر ، فبعث إليه ودعاه وقال له : إن لي حاجة أحببت أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك ، فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ، فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته ، فدخل المدينة وقضى حاجته ، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى واقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة ، فأمر نمرود بذبح الغلمان ، فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها ، فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ، فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت ، وأن الولد في موضع كذا وكذا فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر ، فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع ، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه .
وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه .
قال أبو روق : وقالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه ، فوجدته يمص من أصبع ماء ، ومن أصبع لبنا ، ومن أصبع عسلا ومن أصبع تمرا ، ومن أصبع سمنا .
وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل؟ فقالت : ولدت غلاما فمات ، فصدقها فسكت عنها ، وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمه أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض ، وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي الذي ما لي إله غيره ، ثم نظر إلى السماء فرأى كوكبا فقال : هذا ربي ، ثم أتبعه بصره لينظر إليه حتى غاب ، فلما أفل ، قال : لا أحب الآفلين ، ثم رأى القمر بازغا قال هذا ربي وأتبعه ببصره حتى غاب ، ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره ، ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك ، فأخبره أنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه ، وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا .
وقيل : إنه كان في السرب سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة ، قالوا : فلما شب إبراهيم عليه السلام ، وهو في السرب قال لأمه : من ربي؟ قالت : أنا ، قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك ، قال : فمن رب أبي؟ قالت : نمرود ، قال : فمن ربه؟ قالت له : اسكت فسكت ، ثم رجعت إلى زوجها ، فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ، ثم أخبرته بما قال ، فأتاه أبوه آزر ، فقال له إبراهيم عليه السلام : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك ، قال : ومن رب أمي؟ قال : أنا قال : ومن ربك؟ قال : نمرود قال : فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال له : اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا ، قال : هذا ربي .
ويقال : إنه قال لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس ، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم ، فسأل أباه ما هذه؟ فقال : إبل وخيل وغنم ، فقال : ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق ، ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ، ويقال : الزهرة ، وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فيها ، فرأى الكوكب قبل القمر ، فذلك قوله عز وجل : ( فلما جن عليه الليل ) أي : دخل ، يقال : جن الليل وأجن الليل ، وجنه الليل ، وأجن عليه الليل يجن جنونا وجنانا إذا أظلم وغطى كل شيء ، وجنون الليل سواده ، ( رأى كوكبا ) قرأ أبو عمرو ( رأى ) بفتح الراء وكسر الألف ، ويكسرهما ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ، فإن اتصل بكاف أو هاء فتحهما ابن عامر ، وإن لقيها ساكن كسر الراء وفتح الهمزة حمزة وأبو بكر ، وفتحهما الآخرون . ( قال هذا ربي )
واختلفوا في قوله ذلك : فأجراه بعضهم على الظاهر ، وقالوا : كان إبراهيم عليه السلام مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حال الاستدلال ، وأيضا كان ذلك في حال طفولته قبل قيام الحجة عليه ، فلم يكن كفرا .
وأنكر الآخرون هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأخبر عنه فقال : " إذ جاء ربه بقلب سليم " ( الصافات ، 84 ) وقال : " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض " ، أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكبا قال : هذا ربي معتقدا؟ فهذا ما لا يكون أبدا .
ثم قالوا : فيه أربعة أوجه من التأويل :
أحدها : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه ، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدعون ، ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم ، فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره ، فقال : الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا ، فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون ، فأسلموا .
والوجه الثاني من التأويل : أنه قاله على وجه الاستفهام تقديره : أهذا ربي؟ كقوله تعالى : ( أفإن مت فهم الخالدون ) ( الأنبياء ، 34 ) ؟ أي : أفهم الخالدون؟ وذكره على وجه التوبيخ منكرا لفعلهم ، يعني : ومثل هذا يكون ربا ؟ أي : ليس هذا ربي .
والوجه الثالث : أنه على وجه الاحتجاج عليهم ، يقول : هذا ربي بزعمكم؟ فلما غاب قال : لو كان إلها لما غاب ، كما قال : [ ذق إنك أنت العزيز الكريم ( الدخان ، 49 ) ، أي : عند نفسك وبزعمك ، وكما أخبر عن موسى أنه قال : ( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ) ( طه 97 ) يريد إلهك بزعمك .
والوجه الرابع : فيه إضمار وتقديره يقولون هذا ربي ، كقوله ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ) ، ( البقرة ، 127 ) أي : يقولون ربنا تقبل منا . ( فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) وما لا يدوم .
0%