undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
﴿وما تَأْتِيهِمْ مِن آيَةٍ مِن آياتِ رَبِّهِمْ إلّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ﴾ .
هَذا انْتِقالٌ إلى كُفْرانِ المُشْرِكِينَ في تَكْذِيبِهِمْ رِسالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ أنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ بِبُطْلانِ كُفْرِهِمْ في أمْرِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ في الإلَهِيَّةِ، وقَدْ عُطِفَ لِأنَّ الأمْرَيْنِ مِن أحْوالِ كُفْرِهِمْ ولِأنَّ الَّذِي حَمَلَهم عَلى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ ﷺ هو دَعْوَتُهُ إيّاهم إلى التَّوْحِيدِ، فَمِن أجْلِهِ نَشَأ النِّزاعُ بَيْنَهم وبَيْنَهُ فَكَذَّبُوهُ وسَألُوهُ الآياتِ عَلى صِدْقِهِ.
وضَمائِرُ جَمْعِ الغائِبِينَ مُرادٌ مِنها المُشْرِكُونَ الَّذِينَ هم بَعْضُ مَن شَمِلَتْهُ ضَمائِرُ الخِطابِ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها؛ فَفي العُدُولِ عَنِ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمِ التِفاتٌ أوْجَبَهُ تَشْهِيرُهم بِهَذا الحالِ الذَّمِيمِ، تَنْصِيصًا عَلى ذَلِكَ، وإعْراضًا عَنْ خِطابِهِمْ، (ص-١٣٤)وتَمْحِيضًا لِلْخِطابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهو مِن أحْسَنِ الِالتِفاتِ، لِأنَّ الِالتِفاتَ يُحَسِّنُهُ أنْ يَكُونَ لَهُ مُقْتَضًى زائِدٌ عَلى نَقْلِ الكَلامِ مِن أُسْلُوبٍ إلى أُسْلُوبٍ المُرادُ مِنهُ تَجْدِيدُ نَشاطِ السّامِعِ. وتَكُونُ الواوُ اسْتِئْنافِيَّةً وما بَعْدَها كَلامًا مُسْتَأْنَفًا ابْتِدائِيًّا.
واسْتَعْمَلَ المُضارِعَ في قَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّجَدُّدِ وإنْ كانَ هَذا الإتْيانُ ماضِيًا أيْضًا بِقَرِينَةِ المُضِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا كانُوا﴾ .
والمُرادُ بِإتْيانِها بُلُوغُها إلَيْهِمْ وتَحَدِّيهِمْ بِها، فَشَبَّهَ البُلُوغَ بِمَجِيءِ الجائِي، كَقَوْلِ النّابِغَةِ:
؎أتانِي أبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَنِي
وحَذَفَ ما يَدُلُّ عَلى الجانِبِ المَأْتِيِّ مِنهُ لِظُهُورِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن آياتِ رَبِّهِمْ﴾، أيْ ما تَأْتِيهِمْ مِن عِنْدِ رَبِّهِمْ آيَةٌ مِن آياتِهِ إلّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ.
ومِن في قَوْلِهِ: ﴿مِن آيَةٍ﴾ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِقَصْدِ عُمُومِ أنْواعِ الآياتِ الَّتِي أتَتْ وتَأْتِي. ومِنَ الَّتِي في قَوْلِهِ: ﴿مِن آياتِ رَبِّهِمْ﴾ تَبْعِيضِيَّةٌ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن آيَةٍ﴾ كُلُّ دَلالَةٍ تَدُلُّ عَلى انْفِرادِ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ. مِن ذَلِكَ آياتُ القُرْآنِ الَّتِي لِإعْجازِها لَهم كانَتْ دَلائِلَ عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ فِيما أخْبَرَ بِهِ مِنَ الوَحْدانِيَّةِ. وكَذَلِكَ مُعْجِزاتُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِثْلُ انْشِقاقِ القَمَرِ. وتَقَدَّمَ مَعْنى الآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ [البقرة: ٣٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وإضافَةُ الرَّبِّ إلى ضَمِيرِ (هم) لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوقِ لِحَقِّ العُبُودِيَّةِ، لِأنَّ مِن حَقِّ العَبْدِ أنْ يُقْبِلَ عَلى ما يَأْتِيهِ مِن رَبِّهِ وعَلى مَن يَأْتِيهِ يَقُولُ لَهُ: إنِّي مُرْسَلٌ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ، ثُمَّ يَتَأمَّلَ ويَنْظُرَ، ولَيْسَ مِن حَقِّهِ أنْ يُعْرِضَ عَنْ ذَلِكَ إذْ لَعَلَّهُ يُعْرِضُ عَمّا إنْ تَأمَّلَهُ عَلِمَ أنَّهُ مِن عِنْدِ رَبِّهِ.
والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أحْوالٍ مَحْذُوفَةٍ.
وجُمْلَةُ ﴿كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ. واخْتِيرَ الإتْيانُ في خَبَرِ كانَ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ هَذا الإعْراضَ مُتَحَقِّقٌ مِن دَلالَةِ فِعْلِ الكَوْنِ، ومُتَجَدِّدٌ مِن دَلالَةِ صِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ لِأنَّ المُشْتَقّاتِ في قُوَّةِ الفِعْلِ المُضارِعِ. والِاسْتِثْناءُ دَلَّ عَلى أنَّهم لَمْ يَكُنْ لَهم حالٌ إلّا الإعْراضُ.
(ص-١٣٥)وإنَّما يَنْشَأُ الإعْراضُ عَنِ اعْتِقادِ عَدَمِ جَدْوى النَّظَرِ والتَّأمُّلِ، فَهو دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُعْرِضَ مُكَذِّبٌ لِلْمُخْبِرِ المُعْرِضِ عَنْ سَماعِهِ.
وأصْلُ الإعْراضِ صَرْفُ الوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ في الشَّيْءِ. وهو هُنا مَجازٌ في إباءِ المَعْرِفَةِ، فَيَشْمَلُ المَعْنى الحَقِيقِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلى الآياتِ المُبْصَراتِ كانْشِقاقِ القَمَرِ، ويَشْمَلُ تَرْكَ الِاسْتِماعِ لِلْقُرْآنِ، ويَشْمَلُ المُكابَرَةَ عَنِ الِاعْتِرافِ بِإعْجازِهِ وكَوْنِهِ حَقًّا بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ ويُكابِرُونَهُ، كَما يَجِيءُ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ [الأنعام: ٢٥] . وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.