undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
﴿ولَقَدُ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ .
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٨] لِبَيانِ تَفَنُّنِهِمْ في المُكابَرَةِ والعِنادِ تَصَلُّبًا في شِرْكِهِمْ وإصْرارًا عَلَيْهِ، فَلا يَتْرُكُونَ وسِيلَةً مِن وسائِلِ التَّنْفِيرِ مِن قَبُولِ دَعْوَةِ الإسْلامِ إلّا تَوَسَّلُوا بِها. ومُناسَبَةُ عَطْفِ هَذا الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٨] (ص-١٤٧)أنَّهم كانُوا في قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قاصِدِينَ التَّعْجِيزَ والِاسْتِهْزاءَ مَعًا، لِأنَّهم ما قالُوهُ إلّا عَنْ يَقِينٍ مِنهم أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ، فابْتَدَأ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِإبْطالِ ظاهِرِ كَلامِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ﴾ [الأنعام: ٨] . ثُمَّ ثَنّى بِتَهْدِيدِهِمْ عَلى ما أرادُوهُ مِنَ الِاسْتِهْزاءِ، والمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ تَهْدِيدُهم بِأنَّهم سَيَحِيقُ بِهِمُ العَذابُ وأنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ في كُلِّ أُمَّةٍ اسْتَهْزَأتْ بِرَسُولٍ لَهُ.
فَقَوْلُهُ: ﴿ولَقَدُ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ﴾ يَدُلُّ عَلى جُمْلَةٍ مَطْوِيَّةٍ إيجازًا، تَقْدِيرُها: واسْتَهْزَءُوا بِكَ ولَقَدِ اسْتَهْزَأ أُمَمٌ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن قَبْلِكَ﴾ يُؤْذِنُ بِأنَّهُ قَدِ اسْتُهْزِئَ بِهِ هو أيْضًا وإلّا لَمْ تَكُنْ فائِدَةٌ في وصْفِ الرُّسُلِ بِأنَّهم مِن قَبْلِهِ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ. وحَذَفَ فاعِلَ الِاسْتِهْزاءِ فَبَنى الفِعْلَ إلى المَجْهُولِ لِأنَّ المَقْصُودَ هُنا هو تُرَتُّبُ أثَرِ الِاسْتِهْزاءِ لا تَعْيِينُ المُسْتَهْزِئِينَ.
واللّامُ لِلْقَسَمِ، و(قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ، وكِلاهُما يَدُلُّ عَلى تَأْكِيدِ الخَبَرِ. والمَقْصُودُ تَأْكِيدُهُ بِاعْتِبارِ ما تَفَرَّعَ عَنْهُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا﴾ إلَخْ، لِأنَّ حالَ المُشْرِكِينَ حالُ مَن يَتَرَدَّدُ في أنَّ سَبَبَ هَلاكِ الأُمَمِ السّالِفَةِ هو الِاسْتِهْزاءُ بِالرُّسُلِ، إذْ لَوْلا تَرَدُّدُهم في ذَلِكَ لَأخَذُوا الحَيْطَةَ لِأنْفُسِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذِي جاءَهم فَنَظَرُوا في دَلائِلِ صِدْقِهِ وما أعْرَضُوا، لِيَسْتَبْرِئُوا لِأنْفُسِهِمْ مِن عَذابٍ مُتَوَقَّعٍ، أوْ نَزَلُوا مَنزِلَةَ المُتَرَدِّدِ إنْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ. واسْتِهْزاؤُهم لَهُ أفانِينُ، مِنها قَوْلُهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.
ومَعْنى الِاسْتِهْزاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وهو مُرادِفٌ لِلسُّخْرِيَةِ في كَلامِ أئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَذَكَرَ اسْتُهْزِئَ أوَّلًا لِأنَّهُ أشْهَرُ، ولَمّا أُعِيدَ عَبَّرَ بِسَخِرُوا، ولَمّا أُعِيدَ ثالِثَ مَرَّةٍ رَجَعَ إلى فِعْلِ يَسْتَهْزِئُونَ، لِأنَّهُ أخَفُّ مِن (يَسْخَرُونَ) . وهَذا مِن بَدِيعِ فَصاحَةِ القُرْآنِ المُعْجِزَةِ.
وسَخِرُوا بِمَعْنى هَزِئُوا، ويَتَعَدّى إلى المَفْعُولِ بِـ (مِن)، قِيلَ: لا يَتَعَدّى بِغَيْرِها. وقِيلَ: يَتَعَدّى بِالباءِ. وكَذا الخِلافُ في تَعْدِيَةِ هَزَأ واسْتَهْزَأ. والأصَحُّ أنَّ كِلا الفِعْلَيْنِ يَتَعَدّى بِحَرْفِ (مِن) والباءِ، وأنَّ الغالِبَ في (هَزَأ) أنْ يَتَعَدّى بِالباءِ، وفي (سَخِرَ) أنْ يَتَعَدّى بِـ (مِن) . وأصْلُ مادَّةِ (سَخِرَ) مُؤْذِنٌ بِأنَّ الفاعِلَ اتَّخَذَ المَفْعُولَ مُسَخَّرًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شاءَ بِدُونِ حُرْمَةٍ لِشِدَّةِ قُرْبِ مادَّةِ (سَخِرَ) المُخَفَّفِ مِن مادَّةِ التَّسْخِيرِ، أيِ التَّطْوِيعِ فَكَأنَّهُ حَوَّلَهُ عَنْ حَقِّ الحُرْمَةِ الذّاتِيَّةِ فاتَّخَذَ مِنهُ لِنَفْسِهِ سُخْرِيَةً.
(ص-١٤٨)وفِعْلُ حاقَ اخْتَلَفَ أئِمَّةُ اللُّغَةِ في مَعْناهُ. فَقالَ الزَّجّاجُ: هو بِمَعْنى أحاطَ، وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وفَسَّرَهُ الفَرّاءُ بِمَعْنى عادَ عَلَيْهِ. وقالَ الرّاغِبُ: أصْلُهُ حَقَّ، أيْ بِمَعْنى وجَبَ، فَأبْدَلَ أحَدَ حَرْفَيِ التَّضْعِيفِ حَرْفَ عِلَّةٍ تَخْفِيفًا، كَما قالُوا تَظَنّى في تَظَنَّنَ، أيْ وكَما قالُوا: تَقَضّى البازِي، بِمَعْنى تَقَضَّضَ. والأظْهَرُ ما قالَهُ أبُو إسْحاقَ الزَّجّاجُ.
واخْتِيرَ فِعْلُ الإحاطَةِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَمَكُّنِ ذَلِكَ مِنهم وعَدَمِ إفْلاتِهِ أحَدًا مِنهم.
وإنَّما جِيءَ بِالمَوْصُولِ في قَوْلِهِ: ﴿بِالَّذِينَ سَخِرُوا﴾ ولَمْ يَقُلْ بِالسّاخِرِينَ لِلْإيماءِ إلى تَعْلِيلِ الحُكْمِ، وهو قَوْلُهُ: فَحاقَ.
ومِنهم يَتَعَلَّقُ بِـ سَخِرُوا، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ عائِدٌ إلى الرُّسُلِ، لِزِيادَةِ تَقْرِيرِ كَوْنِ العِقابِ لِأجْلِهِمْ تَرْفِيعًا لِشَأْنِهِمْ. و(ما) في قَوْلِهِ: ﴿ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ مَوْصُولَةٌ. والباءُ في بِهِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِهْزاءِ. ووُجُودُ الباءِ مانِعٌ مِن جَعْلِ (ما) غَيْرَ مَوْصُولَةٍ. وهو ما أطالَ التَّرَدُّدَ فِيهِ الكاتِبُونَ.
والمُرادُ بِـ ﴿ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ما أنْذَرَهُمُ الرُّسُلُ بِهِ مِن سُوءِ العاقِبَةِ وحُلُولِ العَذابِ بِهِمْ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ فائِدَةٌ أُخْرى، وهي أنَّ المُسْتَهْزِئِينَ كانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِالرُّسُلِ وخاصَّةً بِما يُنْذِرُونَهم بِهِ مِن حُلُولِ العَذابِ إنِ اسْتَمَرُّوا عَلى عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِما جاءُوا بِهِ. فاسْتِهْزاؤُهم بِما أُنْذِرُوا بِهِ جَعَلَ ما أُنْذِرُوا بِهِ كالشَّخْصِ المَهْزُوءِ بِهِ إذا جَعَلْنا الباءَ لِلتَّعْدِيَةِ، أوِ اسْتِهْزاؤُهم بِالرُّسُلِ بِسَبَبِ ما أنْذَرُوهم بِهِ إذا جُعِلَتِ الباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى الفِعْلِ لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.