You are reading a tafsir for the group of verses 5:116 to 5:118
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
﴿وإذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِيَ أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ ﴿ما قُلْتُ لَهم إلّا ما أمَرْتَنِي بِهِ أنُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكم وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ .
﴿وإذْ قالَ اللَّهُ﴾ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ [المائدة: ١١٠]، فَهو ما يَقُولُهُ اللَّهُ يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ ولَيْسَ مِمّا قالَهُ في الدُّنْيا، لِأنَّ عِبادَةَ عِيسى حَدَثَتْ بَعْدَ رَفْعِهِ، ولِقَوْلِهِ ﴿هَذا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: ١١٩] . فَقَدْ أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ. وأنَّ قَوْلَهُ ﴿وإذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ قَوْلٌ يَقُولُهُ يَوْمَ القِيامَةِ. وهَذا مَبْدَأُ تَقْرِيعِ النَّصارى بَعْدَ أنْ فَرَغَ مِن تَقْرِيعِ اليَهُودِ مِن قَوْلِهِ ﴿إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ [المائدة: ١١٠] إلى هُنا. وتَقْرِيعُ النَّصارى هو المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآياتِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ [المائدة: ١٠٩] الآيَةَ، فالِاسْتِفْهامُ هُنا كالِاسْتِفْهامِ في قَوْلِهِ تَعالى لِلرُّسُلِ ﴿ماذا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٩] واللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ عِيسى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ولَكِنْ أُرِيدَ إعْلانُ كَذِبِ مَن كَفَرَ مِنَ النَّصارى.
(ص-١١٣)وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ في قَوْلِهِ ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِفْهامَ مُتَوَجِّهٌ إلى تَخْصِيصِهِ بِالخَبَرِ دُونَ غَيْرِهِ مَعَ أنَّ الخَبَرَ حاصِلٌ لا مَحالَةَ. فَقَوْلُ قائِلِينَ: اتَّخِذُوا عِيسى وأُمَّهُ إلَهَيْنِ، واقِعٌ. وإنَّما أُلْقِيَ الِاسْتِفْهامُ لِعِيسى أهُوَ الَّذِي قالَ لَهم ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالإرْهابِ والوَعِيدِ بِتَوَجُّهِ عُقُوبَةٍ إلى مَن قالَ هَذا القَوْلَ إنْ تَنَصَّلَ مِنهُ عِيسى فَيَعْلَمُ أحْبارُهُمُ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا هَذا القَوْلَ أنَّهُمُ المُرادُ بِذَلِكَ.
والمَعْنى أنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هو قائِلُ ذَلِكَ فَلا عُذْرَ لِمَن قالَهُ لِأنَّهم زَعَمُوا أنَّهم يَتَّبِعُونَ أقْوالَ عِيسى وتَعالِيمَهُ، فَلَوْ كانَ هو القائِلُ لَقالَ: اتَّخِذُونِي وأُمِّي، ولِذَلِكَ جاءَ التَّعْبِيرُ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ في الآيَةِ.
والمُرادُ بِالنّاسِ أهْلُ دِينِهِ.
وقَوْلُهُ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ اتَّخِذُونِي، وحَرْفُ (مِن) صِلَةٌ وتَوْكِيدٌ.
وكَلِمَةُ دُونَ اسْمٌ لِلْمَكانِ المُجاوِزِ، ويَكْثُرُ أنْ يَكُونَ مَكانًا مَجازِيًّا مُرادًا بِهِ المُغايَرَةُ، فَتَكُونُ بِمَعْنى سِوى. وانْظُرْ ما تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ أتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا نَفْعًا﴾ [المائدة: ٧٦] . والمَعْنى اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ سِوى اللَّهِ.
وقَدْ شاعَ هَذا في اسْتِعْمالِ القُرْآنِ قالَ تَعالى ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥]، وقالَ ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨]، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ الَّتِي خُوطِبَ بِها المُشْرِكُونَ مَعَ أنَّهم أشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ ولَمْ يُنْكِرُوا إلَهِيَّةَ اللَّهِ.
وذَكَرَ هَذا المُتَعَلِّقَ إلْزامًا لَهم بِشَناعَةِ إثْباتِ إلَهِيَّةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأنَّ النَّصارى لَمّا ادَّعَوْا حُلُولَ اللَّهِ في ذاتِ عِيسى تَوَزَّعَتِ الإلَهِيَّةُ وبَطُلَتِ الوَحْدانِيَّةُ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هَذا المَذْهَبِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ١٧] في هَذِهِ السُّورَةِ.
وجَوابُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعالى عَنْ مَضْمُونِ (ص-١١٤)تِلْكَ المَقالَةِ. وكانَتِ المُبادَرَةُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى أهَمَّ مِن تَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ، عَلى أنَّها مُقَدِّمَةٌ لِلتَّبَرِّي لِأنَّهُ إذا كانَ يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنْ ذَلِكَ فَلا جَرَمَ أنَّهُ لا يَأْمُرُ بِهِ أحَدًا. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى (سُبْحانِكَ) في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا﴾ [البقرة: ٣٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وبَرَّأ نَفْسَهُ فَقالَ: ﴿ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾؛ فَجُمْلَةُ ﴿ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأنَّها جَوابُ السُّؤالِ. وجُمْلَةُ سُبْحانِكَ تَمْهِيدٌ.
وقَوْلُهُ ﴿ما يَكُونُ لِي﴾ مُبالَغَةٌ في التَّبْرِئَةِ مِن ذَلِكَ، أيْ ما يُوجَدُ لَدَيَّ قَوْلُ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فاللّامُ في قَوْلِهِ ما يَكُونُ لِي لِلِاسْتِحْقاقِ، أيْ ما يُوجَدُ حَقٌّ أنْ أقُولَ. وذَلِكَ أبْلَغُ مِن لَمْ أقُلْهُ لِأنَّهُ نَفى أنْ يُوجَدَ اسْتِحْقاقُهُ ذَلِكَ القَوْلَ.
والباءُ في قَوْلِهِ (بِحَقٍّ) زائِدَةٌ في خَبَرِ لَيْسَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَيْسَ. واللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ مُتَعَلِّقَةٌ بِلَفْظِ (حَقٍّ) عَلى رَأْيِ المُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحاةِ أنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ المُتَعَلِّقِ عَلى مُتَعَلَّقِهِ المَجْرُورِ بِحَرْفِ الجَرِّ. وقُدِّمَ الجارُّ والمَجْرُورُ لِلتَّنْصِيصِ عَلى أنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِـ (حَقٍّ) لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ صِفَةً لِـ (حَقٍّ) حَتّى يُفْهَمَ مِنهُ أنَّهُ نَفى كَوْنَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُ ولَكِنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ الَّذِينَ قالُوهُ وكَفَرُوا بِهِ، ولِلْمُبادَرَةِ بِما يَدُلُّ عَلى تَنَصُّلِهِ مِن ذَلِكَ بِأنَّهُ لَيْسَ لَهُ. وقَدْ أفادَ الكَلامُ تَأْكِيدَ كَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ حَقًّا لَهُ بِطَرِيقِ المَذْهَبِ الكَلامِيِّ لِأنَّهُ نَفى أنْ يُباحَ لَهُ أنْ يَقُولَ ما لا يَحِقُّ لَهُ، فَعَلِمَ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَقًّا لَهُ وأنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ لِأجْلِ كَوْنِهِ كَذَلِكَ. فَهَذا تَأْكِيدٌ في غايَةِ البَلاغَةِ والتَّفَنُّنِ.
ثُمَّ ارْتَقى في التَّبَرُّئِ فَقالَ ﴿إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾، فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأنَّها دَلِيلٌ وحُجَّةٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها، فَكانَتْ كالبَيانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في قُلْتُهُ عائِدٌ إلى الكَلامِ المُتَقَدِّمِ. ونَصْبُ القَوْلِ لِلْمُفْرَدِ إذا كانَ في مَعْنى الجُمْلَةِ شائِعٌ كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿كَلّا إنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها﴾ [المؤمنون: ١٠٠])، فاسْتَدَلَّ عَلى انْتِفاءِ أنْ يَقُولَهُ بِأنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ يَتَحَقَّقُ أنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، فَلِذَلِكَ أحالَ عَلى عِلْمِ اللَّهِ تَعالى. وهَذا كَقَوْلِ العَرَبِ: يَعْلَمُ اللَّهُ أنِّي لَمْ أفْعَلْ، كَما قالَ الحارِثُ بْنُ عَبّادٍ:
؎لَمْ أكُنْ مِن جُناتِها عَلِمَ اللَّهُ وأنِّي لِحَرِّها اليَوْمَ صالِ
(ص-١١٥)ولِذَلِكَ قالَ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾، فَجُمْلَةُ ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ الشَّرْطِ ﴿إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
والنَّفْسُ تُطْلَقُ عَلى العَقْلِ وعَلى ما بِهِ الإنْسانُ، إنْسانٌ وهي الرُّوحُ الإنْسانِيُّ، وتُطْلَقُ عَلى الذّاتِ. والمَعْنى هُنا: تَعْلَمُ ما أعْتَقِدُهُ، أيْ تَعْلَمُ ما أعْلَمُهُ لِأنَّ النَّفْسَ مَقَرُّ العُلُومِ في المُتَعارَفِ.
وقَوْلُهُ ﴿ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ اعْتِراضٌ نَشَأ عَنْ ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾ لِقَصْدِ الجَمْعِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ في الوَقْتِ الواحِدِ وفي كُلِّ حالٍ. وذَلِكَ مُبالَغَةٌ في التَّنْزِيهِ ولَيْسَ لَهُ أثَرٌ في التَّبَرُّئِ والتَّنَصُّلِ، فَلِذَلِكَ تَكُونُ الواوُ اعْتِراضِيَّةً.
وإضافَةُ النَّفْسِ إلى اسْمِ الجَلالَةِ هَنا بِمَعْنى العِلْمِ الَّذِي لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، أيْ ولا أعْلَمُ ما تَعْلَمُهُ، أيْ مِمّا انْفَرَدْتَ بِعِلْمِهِ. وقَدْ حَسَّنَهُ هُنا المُشاكَلَةُ كَما أشارَ إلَيْهِ في الكَشّافِ.
وفِي جَوازِ إطْلاقِ النَّفْسِ عَلى ذاتِ اللَّهِ تَعالى بِدُونِ مُشاكَلَةٍ خِلافٌ؛ فَمِنَ العُلَماءِ مَن مَنَعَ ذَلِكَ. وإلَيْهِ ذَهَبَ السَّعْدُ والسَّيِّدُ وعَبْدُ الحَكِيمِ في شُرُوحِ المِفْتاحِ والتَّلْخِيصِ. وهَؤُلاءِ يَجْعَلُونَ ما ورَدَ مِن ذَلِكَ في الكِتابِ نَحْوَ ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: ٢٨] مِن قَبِيلِ المُتَشابِهِ. ومِنَ العُلَماءِ مَن جَوَّزَ ذَلِكَ مِثْلَ إمامِ الحَرَمَيْنِ كَما نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ في التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤] في سُورَةِ الأنْعامِ، ويَشْهَدُ لَهُ تَكَرُّرُ اسْتِعْمالِهِ في القُرْآنِ وكَلامُ النَّبِيءِ ﷺ كَما في الحَدِيثِ القُدُسِيِّ «فَإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي» .
وقَوْلُهُ ﴿إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾ ولِذَلِكَ جِيءَ بِـ (إنَّ) المُفِيدَةِ التَّعْلِيلِ. وقَدْ جُمِعَ فِيهِ أرْبَعُ مُؤَكِّداتٍ وطَرِيقَةُ حَصْرٍ، فَضَمِيرُ الفَصْلِ أفادَ الحَصْرَ، وإنَّ، وصِيغَةُ الحَصْرِ، وجَمْعُ الغُيُوبِ، وأداةُ الِاسْتِغْرابِ.
وبَعْدَ أنْ تَبَرَّأ مِن أنْ يَكُونَ أمَرَ أُمَّتَهُ بِما اخْتَلَقُوهُ انْتَقَلَ فَبَيَّنَ أنَّهُ أمَرَهم بِعَكْسِ ذَلِكَ حَسْبَما أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى فَقالَ ﴿ما قُلْتُ لَهم إلّا ما أمَرْتَنِي بِهِ﴾، فَقَوْلُهُ ﴿ما قُلْتُ لَهُمْ﴾ ارْتِقاءٌ في الجَوابِ، فَهو اسْتِئْنافٌ بِمَنزِلَةِ الجَوابِ الأوَّلِ وهو ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ إلَخْ. . . صَرَّحَ هُنا بِما قالَهُ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ عَنْ مَقالِهِ. والمَعْنى: ما تَجاوَزْتُ (ص-١١٦)فِيما قُلْتُ حَدَّ التَّبْلِيغِ لِما أمَرْتَنِي بِهِ، فالمَوْصُولُ وصِلَتُهُ هو مَقُولُ ما قُلْتُ لَهم وهو مُفْرَدٌ دالٌّ عَلى جُمَلٍ، فَلِذَلِكَ صَحَّ وُقُوعُهُ مَنصُوبًا بِفِعْلِ القَوْلِ.
و(أنْ) مُفَسِّرَةُ (أمَرْتَنِي) لِأنَّ الأمْرَ فِيهِ مَعْنى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ وجُمْلَةُ ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ تَفْسِيرِيَّةٌ لِـ (أمَرْتَنِي) . واخْتِيرَ (أمَرْتَنِي) عَلى (قُلْتُ لِي) مُبالَغَةً في الأدَبِ. ولَمّا كانَ أمَرْتَنِي مُتَضَمِّنًا مَعْنى القَوْلِ كانَتْ جُمْلَةُ ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ هي المَأْمُورُ بِأنْ يُبَلِّغَهُ لَهم فاللَّهُ قالَ لَهُ: قُلْ لَهُمُ ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ . فَعَلى هَذا يَكُونُ ﴿رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ مِن مَقُولِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّهُ أمَرَهُ بِأنْ يَقُولَ هَذِهِ العِبارَةَ ولَكِنْ لَمّا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِفِعْلِ ﴿أمَرْتَنِي بِهِ﴾ صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِحَرْفِ (أنْ) التَّفْسِيرِيَّةِ فالَّذِي قالَهُ عِيسى هو عَيْنُ اللَّفْظِ الَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يَقُولَهُ. فَلا حاجَةَ إلى ما تَكَلَّفَ بِهِ في الكَشّافُ عَلى أنَّ صاحِبَ الِانْتِصافِ جَوَّزَ وجْهًا آخَرَ وهو أنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ جَرى عَلى حِكايَةِ القَوْلِ المَأْمُورِ بِهِ بِالمَعْنى، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعالى قالَ لَهُ: قُلْ لَهم أنْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ ورَبَّهم. فَلَمّا حَكاهُ عِيسى قالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمُ اهـ. وهَذا التَّوْجِيهُ هو الشّائِعُ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ حَتّى جَعَلُوا الآيَةَ مِثالًا لِحِكايَةِ القَوْلِ بِالمَعْنى. وأقُولُ: هو اسْتِعْمالٌ فَصِيحٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَكَّنّاهم في الأرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦] في سُورَةِ الأنْعامِ إذا أخْبَرْتَ أنَّكَ قُلْتَ لِغائِبٍ أوْ قِيلَ لَهُ أوْ أمَرْتَ أنْ يُقالَ لَهُ: فَلَكَ في فَصِيحِ كَلامِ العَرَبِ أنْ تَحْكِي الألْفاظَ المَقُولَةَ بِعَيْنِها، فَتَجِيءُ بِلَفْظِ المُخاطَبَةِ، ولَكَ أنْ تَأْتِيَ بِالمَعْنى في الألْفاظِ بِذِكْرِ غائِبٍ دُونَ مُخاطَبَةٍ اهـ. وعِنْدِي أنَّهُ ضَعِيفٌ في هَذِهِ الآيَةِ.
ثُمَّ تَبَرَّأ مِن تَبِعَتِهِمْ فَقالَ ﴿وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أيْ كُنْتُ مُشاهِدًا لَهم ورَقِيبًا يَمْنَعُهم مِن أنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذِهِ المَقالَةِ الشَّنْعاءِ.
وما دُمْتُ (ما) فِيهِ ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، و(دامَ) تامَّةٌ لا تَطْلُبُ مَنصُوبًا، و(فِيهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (دُمْتُ)، أيْ بَيْنَهم، ولَيْسَ خَبَرًا لِـ (دامَ) عَلى الأظْهَرِ، لِأنَّ (دامَ) الَّتِي تَطْلُبُ خَبَرًا هي الَّتِي يُرادُ مِنها الِاسْتِمْرارُ عَلى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ هو مَضْمُونُ خَبَرِها، أمّا هي هُنا فَهي بِمَعْنى البَقاءِ، أيْ ما بَقِيتُ فِيهِمْ، أيْ ما بَقِيتُ في الدُّنْيا.
(ص-١١٧)ولِذَلِكَ فَرَّعَ عَنْهُ قَوْلَهَ ﴿فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾، أيْ فَلَمّا قَضَيْتَ بِوَفاتِي، لِأنَّ مُباشِرَ الوَفاةِ هو مَلَكُ المَوْتِ. والوَفاةُ المَوْتُ، وتَوَفّاهُ اللَّهُ أماتَهُ، أيْ قَضى بِهِ وتَوَفّاهُ مَلَكُ المَوْتِ قَبَضَ رُوحَهُ وأماتَهُ.
وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى إنِّي مُتَوَفِّيكَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والمَعْنى: أنَّكَ لَمّا تَوَفَّيْتَنِي قَدْ صارَتِ الوَفاةُ حائِلًا بَيْنِي وبَيْنَهم فَلَمْ يَكُنْ لِي أنْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ ضَلالَهم، ولِذَلِكَ قالَ ﴿كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾، فَجاءَ بِضَمِيرِ الفَصْلِ الدّالِّ عَلى القَصْرِ، أيْ كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ لا أنا إذْ لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وبَيْنَ الدُّنْيا اتِّصالٌ. والمَعْنى أنَّكَ تَعْلَمُ أمْرَهم وتُرْسِلُ إلَيْهِمْ مَن يَهْدِيهِمْ مَتى شِئْتَ. وقَدْ أرْسَلَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ وهَداهم بِكُلِّ وُجُوهِ الِاهْتِداءِ. وأقْصى وُجُوهِ الِاهْتِداءِ إبْلاغُهم ما سَيَكُونُ في شَأْنِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ.
وقَوْلُهُ ﴿وأنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ تَذْيِيلٌ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ إذْ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلى ما تَقَدَّمَ لِئَلّا يَكُونَ في حُكْمِ جَوابِ (لَمّا) .
وقَوْلُهُ ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ فَوَّضَ أمْرَهم إلى اللَّهِ فَهو أعْلَمُ بِما يُجازِيهِمْ بِهِ لِأنَّ المَقامَ مَقامُ إمْساكٍ عَنْ إبْداءِ رَغْبَةٍ لِشِدَّةِ هَوْلِ ذَلِكَ اليَوْمِ، وغايَةُ ما عَرَّضَ بِهِ عِيسى أنَّهُ جَوَّزَ المَغْفِرَةَ لَهم رَحْمَةً مِنهُ بِهِمْ.
وقَوْلُهُ ﴿فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ذِكْرُ العَزِيزِ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ يَغْفِرُ عَنْ مَقْدِرَةٍ، وذِكْرُ الحَكِيمِ لِمُناسَبَتِهِ لِلتَّفْوِيضِ، أيِ المُحْكِمُ لِلْأُمُورِ العالِمُ بِما يَلِيقُ بِهِمْ.