You are reading a tafsir for the group of verses 38:36 to 38:38
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
(ص-٢٦٤)﴿فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ﴾ ﴿والشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وغَوّاصٍ﴾ ﴿وآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾ اقْتَضَتِ الفاءُ وتَرْتِيبُ الجُمَلِ أنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ وتَسْخِيرَ الشَّياطِينِ كانا بَعْدَ أنْ سَألَ اللَّهَ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِهِ أنْ أعْطاهُ هاتَيْنِ المَوْهِبَتَيْنِ زِيادَةً في قُوَّةِ مُلْكِهِ وتَحْقِيقًا لِاسْتِجابَةِ دَعْوَتِهِ لِأنَّهُ إنَّما سَألَ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ غَيْرِهِ ولَمْ يَسْألِ الزِّيادَةَ فِيما أُعْطِيَهُ مِنَ المُلْكِ.
ولَعَلَّ اللَّهَ أرادَ أنْ يُعْطِيَهُ هاتَيْنِ المَوْهِبَتَيْنِ وأنْ لا يُعْطِيَهُما أحَدًا بَعْدَهُ حَتّى إذا أعْطى أحَدًا بَعْدَهُ مُلْكًا مِثْلَ مُلْكِهِ فِيما عَدا هاتَيْنِ المَوْهِبَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَدْ أخْلَفَ إجابَتَهُ.
والتَّسْخِيرُ الإلْجاءُ إلى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيارٍ، وهو مُسْتَعارٌ هُنا لِتَكْوِينِ أسْبابِ تَصَرُّفِ الرِّيحِ إلى الجِهاتِ الَّتِي يُرِيدُ سُلَيْمانُ تَوْجِيهَ سُفُنِهِ إلَيْها لِتَكُونَ مُعِينَةً سُفُنَهُ عَلى سُرْعَةِ سَيْرِها، ولِئَلّا تُعاكِسَ وِجْهَةَ سُفُنِهِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ﴾ [سبإ: ١٢] في سُورَةِ النَّمْلِ.
وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ ”الرِّياحَ“ بِصِيغَةِ الجَمْعِ.
وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَجْرِي بِأمْرِهِ إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها في سُورَةِ الأنْبِياءِ.
واللّامُ في لَهُ لِلْعِلَّةِ، أيْ: لِأجْلِهِ، أيْ: ذَلِكَ التَّسْخِيرُ كَرامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ بِأنْ جَعَلَ تَصْرِيفَ الرِّياحِ مُقَدَّرًا عَلى نَحْوِ رَغْبَتِهِ.
والأمْرُ في قَوْلِهِ بِأمْرِهِ مُسْتَعارٌ لِلرَّغْبَةِ أوْ لِلدُّعاءِ بِأنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أنْ تَكُونَ الرِّيحُ مُتَّجِهَةً إلى صَوْبِ كَذا حَسَبِ خُطَّةِ أسْفارِ سَفائِنِهِ، أوْ يَرْغَبَ ذَلِكَ في نَفْسِهِ، فَيَصْرِفَ اللَّهُ الرِّيحَ إلى ما يُلائِمُ رَغْبَتَهُ وهو العَلِيمُ بِالخَفِيّاتِ.
والرُّخاءُ: اللَّيِّنَةُ الَّتِي لا زَعْزَعَةَ في هُبُوبِها. وانْتَصَبَ رُخاءً عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ تَجْرِي أيْ تَجْرِي بِأمْرِهِ لَيِّنَةً مُساعِدَةً لِسَيْرِ السُّفُنِ وهَذا مِنَ التَّسْخِيرِ لِأنَّ شَأْنَ الرِّيحِ أنْ تَتَقَلَّبَ كَيْفِيّاتُ هُبُوبِها، وأكْثَرُ ما تَهُبُّ أنْ تَهُبَّ شَدِيدَةً عاصِفَةً، وقَدْ قالَ تَعالى في سُورَةِ الأنْبِياءِ ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً﴾ [الأنبياء: ٨١] ومَعْناهُ: سَخَّرْنا (ص-٢٦٥)لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ الَّتِي شَأْنُها العُصُوفُ، فَمَعْنى فَسَخَّرْنا لَهُ جَعَلْناها لَهُ رُخاءً. فانْتَصَبَ عاصِفَةً في آيَةِ سُورَةِ الأنْبِياءِ عَلى الحالِ مِنَ الرِّيحِ وهي حالٌ مُنْتَقِلَةٌ. ولَمّا أعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ تَجْرِي بِأمْرِهِ عُلِمَ أنَّ عَصْفَها يَصِيرُ إلى لِينٍ بِأمْرِ سُلَيْمانَ، أيْ دُعائِهِ، أوْ بِعَزْمِهِ، أوْ بِرَغْبَتِهِ لِأنَّهُ لا تَصْلُحُ لَهُ أنْ تَكُونَ عاصِفَةً بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ، فَهَذا وجْهُ دَفْعِ التَّنافِي بَيْنَ الحالَيْنِ في الآيَتَيْنِ.
وأصابَ مَعْناهُ قَصَدَ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّوْبِ، أيِ الجِهَةِ، أيْ: تَجْرِي إلى حَيْثُ أيِّ جِهَةٍ قَصَدَ السَّيْرَ إلَيْها. حَكى الأصْمَعِيُّ عَنِ العَرَبِ ”أصابَ الصَّوابَ فَأخْطَأ الجَوابَ“ أيْ أرادَ الصَّوابَ فَلَمْ يُصِبْ.
وقِيلَ: هَذا اسْتِعْمالٌ لَها في لُغَةِ حِمْيَرَ، وقِيلَ في لُغَةِ هَجَرَ.
والشَّياطِينُ جَمْعُ شَيْطانٍ، وحَقِيقَتُهُ الجِنِّيُّ، ويُسْتَعْمَلُ مَجازًا لِلْبالِغِ غايَةَ المَقْدِرَةِ والحِذْقِ في العَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ فَسَخَّرَ اللَّهُ النَّوْعَ الأوَّلَ لِسُلَيْمانَ تَسْخِيرًا خارِقًا لِلْعادَةِ عَلى وجْهِ المُعْجِزَةِ فَهو مُسَخَّرٌ لَهُ في الأُمُورِ الرُّوحانِيَّةِ والتَّصَرُّفاتِ الخَفِيَّةِ ولَيْسَ مِن شَأْنِ جِنْسِهِمْ إيجادُ الصِّناعاتِ المُتْقَنَةِ كالبِناءِ، وسَخَّرَ النَّوْعَ الثّانِي لَهُ تَسْخِيرَ إذْلالٍ ومَغْلُوبِيَّةٍ لِعِظَمِ سُلْطانِهِ وإلْقاءِ مَهابَتِهِ في قُلُوبِ الأُمَمِ فَكانُوا يَأْتُونَ طَوْعًا لِلِانْضِواءِ تَحْتَ سُلْطانِهِ كَما فَعَلَتْ بِلْقِيسُ وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ سَبَأٍ. فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”الشَّياطِينَ“ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ.
وكُلَّ بَنّاءٍ: بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينِ: بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، أيْ: كُلَّ بَنّاءٍ وغَوّاصٍ مِنهم، أي: مِنَ الشَّياطِينِ.
وكُلَّ: هُنا مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْنى الكَثِيرِ، وهو اسْتِعْمالٌ وارِدٌ في القُرْآنِ والكَلامِ الفَصِيحِ، قالَ تَعالى ﴿ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ﴾ [يونس: ٩٧] وقالَ: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ [النحل: ٦٩]، وقالَ النّابِغَةُ:
؎بِها كُلُّ ذَيّالٍ وخَنْساءَ تَرْعَوِي
وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ [الأنعام: ٢٥] في سُورَةِ الأنْعامِ.
(ص-٢٦٦)والبَنّاءُ: الَّذِي يَبْنِي، وهو اسْمُ فاعِلٍ مَصُوغٌ عَلى زِنَةِ المُبالَغَةِ لِلِدَّلالَةِ عَلى مَعْنى الصِّناعَةِ مِثْلُ نَجّارٍ وقَصّارٍ وحَدّادٍ.
والغَوّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ في البَحْرِ لِاسْتِخْراجِ مَحارِ اللُّؤْلُؤِ، وهو أيْضًا مِمّا صِيغَ عَلى وزْنِ المُبالَغَةِ لِلدَّلالَةِ عَلى الصِّناعَةِ، قالَ النّابِغَةُ:
؎أوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوّاصُهَـا ∗∗∗ بَهِجٌ مَتى يَرَها يُهِلَّ ويَسْجُدِ
قالَ تَعالى ﴿ومِنَ الشَّياطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ ويَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] .
وقَدْ بَلَغَتِ الصِّناعَةُ في مُلْكِ سُلَيْمانَ مَبْلَغًا مِنَ الإتْقانِ والجَوْدَةِ والجَلالِ، وناهِيكَ بِبِناءِ هَيْكَلِ أُورْشَلِيمَ وهو الَّذِي سُمِّيَ في الإسْلامِ المَسْجِدَ الأقْصى وما جُلِبَ إلَيْهِ مِن مَوادِّ إقامَتِهِ مِنَ المَمالِكِ المُجاوِرَةِ لَهُ، وكَذَلِكَ الصَّرْحُ الَّذِي أقامَهُ وأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِيهِ مَمْلَكَةُ سَبَأٍ.
وآخَرِينَ: عَطْفٌ عَلى كُلِّ بَنّاءٍ وغَوّاصٍ فَهو مِن جُمْلَةِ بَدَلِ البَعْضِ. وجَمْعُ آخَرٍ بِمَعْنى مُغايِرٍ، فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ المُغايَرَةُ في النَّوْعِ مِن غَيْرِ نَوْعِ الجِنِّ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ المُغايَرَةُ في الصِّفَةِ، أيْ: غَيْرَ بَنّائِينَ وغَوّاصِينَ. وقَدْ كانَ يُجْلَبُ مِنَ المَمالِكِ المُجاوِرَةِ لَهُ والدّاخِلَةِ تَحْتَ ظِلِّ سُلْطانِهِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ في بِناءِ القُصُورِ والحُصُونِ والمُدُنِ، وكانَتْ مَمْلَكَتُهُ عَظِيمَةً وكُلُّ المُلُوكِ يَخْشَوْنَ بَأْسَهُ ويُصانِعُونَهُ.
والمُقَرَّنُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِن قَرَنَهُ مُبالَغَةً في قَرْنِهِ؛ أيْ: جَعْلُهُ قَرِينًا لِغَيْرِهِ لا يَنْفَكُّ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ.
والأصْفادُ: جَمْعُ صَفَدٍ، بِفَتْحَتَيْنِ، وهو القَيْدُ. يُقالُ: صَفَّدَهُ، إذا قَيَّدَهُ.
وهَذا صِنْفٌ مِمَّنْ عُبِّرَ عَنْهم بِالشَّياطِينِ شَدِيدُ الشَّكِيمَةِ يُخْشى تَفَلُّتُهُ ويُرامُ أنْ يَسْتَمِرَّ، يَعْمَلُ أعْمالًا لا يُجِيدُها غَيْرُهُ فَيُصَفَّدُ في القُيُودِ لِيَعْمَلَ تَحْتَ حِراسَةِ الحُرّاسِ. وقَدْ كانَ أهْلُ الرَّأْيِ مِنَ المُلُوكِ يَجْعَلُونَ أصْحابَ الخَصائِصِ في الصِّناعاتِ مَحْبُوسِينَ حَيْثُ لا يَتَّصِلُونَ بِأحَدٍ لِكَيْلا يَسْتَهْوِيَهم جَواسِيسُ مُلُوكٍ آخَرِينَ يَسْتَصْنِعُونَهم لِيَتَخَصَّصَ أهْلُ تِلْكَ المَمْلَكَةِ بِخَصائِصِ تِلْكَ الصِّناعاتِ فَلا تُشارِكُها فِيها مَمْلَكَةٌ أُخْرى وبِخاصَّةٍ في صُنْعِ آلاتِ الحَرْبِ مِن سُيُوفٍ ونِبالٍ وقِسِيٍّ ودَرَقٍ ومِجانٍ وخُوَذٍ وبَيْضاتٍ ودُرُوعٍ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ (ص-٢٦٧)حَقِيقَةً، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِمَنعِ الشَّياطِينِ مِنَ التَّفَلُّتِ.
وقَدْ كانَ مُلْكُ سُلَيْمانَ مُشْتَهِرًا بِصُنْعِ الدُّرُوعِ السّابِغاتِ المُتْقَنَةِ. يُقالُ: دُرُوعٌ سُلَيْمانِيَّةٌ. قالَ النّابِغَةُ:
؎وكُلُّ صَمُوتٍ نَثْلَةٍ تُبَّـعِيَّةٍ ∗∗∗ ونَسْجُ سُلَيْمٍ كُلَّ قَمْصاءَ ذائِلِ
أرادَ نَسْجَ سُلَيْمانَ، أيْ نَسْجَ صُنّاعِهِ.