You are reading a tafsir for the group of verses 38:21 to 38:23
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
(﴿وهَلْ أتاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ ﴿إذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنهم قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فاحْكم بَيْنَنا بِالحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾ ﴿إنَّ هَذا أخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِي نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أكْفِلْنِيها وعَزَّنِي في الخِطابِ﴾ ﴿قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ [ص: ٢٤]) جُمْلَةُ ﴿وهَلْ أتاكَ نَبَأُ الخَصْمِ﴾ إلى آخِرِها مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ﴾ [ص: ١٨] . والإنْشاءُ هُنا في مَعْنى الخَبَرِ، فَإنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ قَصَّتْ شَأْنًا مِن شَأْنِ داوُدَ مَعَ رَبِّهِ تَعالى فَهي نَظِيرُ ما قَبْلَها. (ص-٢٣١)والِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيبِ أوْ في البَحْثِ عَلى العِلْمِ، فَإنْ كانَتِ القِصَّةُ مَعْلُومَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ كانَ الِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلًا في التَّعْجِيبِ، وإنْ كانَ هَذا أوَّلَ عَهْدِهِ بِعِلْمِها كانَ الِاسْتِفْهامُ لِلْحَثِّ مِثْلُ ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ﴾ [الغاشية: ١] . والخِطابُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ سامِعٍ، والوَجْهانِ الأوَّلانِ قائِمانِ. والنَّبَأُ: الخَبَرُ. والتَّعْرِيفُ في ”الخَصْمِ“ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أيْ عَهْدِ فَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِن جِنْسِهِ أيْ نَبَأِ خَصْمٍ مُعَيَّنٍ هَذا خَبَرُهُ، وهَذا مِثْلُ التَّعْرِيفِ في: ادْخُلِ السُّوقَ. والخِصامُ والِاخْتِصامُ: المُجادَلَةُ والتَّداعِي، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿هَذانِ خَصْمانِ﴾ [الحج: ١٩] في سُورَةِ الحَجِّ. والخَصْمُ: اسْمٌ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ وأكْثَرَ، وأُرِيدَ بِهِ هُنا خَصْمانِ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ”خَصْمانِ“، وتَسْمِيَتُهُما بِالخَصْمِ مَجازٌ بِعَلاقَةِ الصُّورَةِ وهي مِن عَلاقَةِ المُشابَهَةِ في الذّاتِ لا في صِفَةٍ مِن صِفاتِ الذّاتِ، وعادَةُ عُلَماءِ البَيانِ أنْ يُمَثِّلُوها بِقَوْلِ القائِلِ إذا رَأى صُورَةَ أسَدٍ: هَذا أسَدٌ. وضَمِيرُ الجَمِيعِ مُرادٌ بِهِ المُثَنّى، والمَعْنى: إذْ تَسَوَّرا المِحْرابَ، والعَرَبُ يَعْدِلُونَ عَنْ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ إلى صِيغَةِ الجَمْعِ إذا كانَتْ هُناكَ قَرِينَةٌ لِأنَّ في صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ ثِقَلًا لِنُدْرَةِ اسْتِعْمالِها، قالَ تَعالى ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤] أيْ قَلْباكُما. و”إذْ تَسَوَّرُوا“ إذا جُعِلَتْ (إذْ) ظَرْفًا لِلزَّمَنِ الماضِي فَهو مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الخَصْمُ، والتَّقْدِيرُ: تَحاكَمَ الخَصْمُ حِينَ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ لِداوُدَ. ولا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلِ ”أتاكَ“ ولا بِ ”نَبَأُ“ لِأنَّ النَّبَأ المُوَقَّتَ بِزَمَنِ تَسَوُّرِ الخَصْمِ مِحْرابَ داوُدَ لا يَأْتِي النَّبِيءَ ﷺ . ولَكَ أنْ تَجْعَلَ (إذِ) اسْمًا لِلزَّمَنِ الماضِي مُجَرَّدًا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وتَجْعَلَهُ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِنَ الخَصْمِ لِما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها﴾ [مريم: ١٦]، فالخَصْمُ مُشْتَمِلٌ عَلى زَمَنِ تَسَوُّرِهِمُ المِحْرابَ، وخُرُوجُ (إذْ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ لا يَخْتَصُّ بِوُقُوعِها مَفْعُولًا بِهِ بَلِ المُرادُ أنَّهُ يَتَصَرَّفُ فَيَكُونُ ظَرْفًا وغَيْرَ ظَرْفٍ. (ص-٢٣٢)والتَّسَوُّرُ: تَفَعُّلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّورِ، وهو الجِدارُ المُحِيطُ بِمَكانٍ أوْ بَلَدٍ. يُقالُ: تَسَوَّرَ، إذا اعْتَلى عَلى السُّورِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم: تَسَنَّمَ جَمَلَهُ، إذا عَلا سَنامَهُ، وتَذَرَّأهُ إذا عَلا ذُرْوَتَهُ، وقَرِيبٌ مِنهُ في الِاشْتِقاقِ قَوْلُهم: صاهى، إذا رَكِبَ صَهْوَةَ فَرَسِهِ. والمَعْنى: أنَّ بَيْتَ عِبادَةِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ مَحُوطًا بِسُورٍ لِئَلّا يَدْخُلَهُ أحَدٌ إلّا بِإذْنٍ مِن حارِسِ السُّورِ. والمِحْرابُ: البَيْتُ المُتَّخَذُ لِلْعِبادَةِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِن مَحارِيبَ﴾ [سبإ: ١٣] في سُورَةِ سَبَأٍ. و”إذْ دَخَلُوا“ بَدَلٌ مِن ”إذْ تَسَوَّرُا“ لِأنَّهم تَسَوَّرُوا المِحْرابَ لِلدُّخُولِ عَلى داوُدَ. والفَزَعُ: الذُّعْرُ، وهو انْفِعالٌ يَظْهَرُ مِنهُ اضْطِرابٌ عَلى صاحِبِهِ مِن تَوَقُّعِ شِدَّةٍ أوْ مُفاجَأةٍ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] في سُورَةِ الأنْبِياءِ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في كِتابِ أحْكامِ القُرْآنِ: إنْ قِيلَ: لِمَ فَزِعَ داوُدُ وقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوءَةِ ؟ . وأجابَ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَضْمَن لَهُ العِصْمَةَ ولا الأمْنَ مِنَ القَتْلِ، وكانَ يَخافُ مِنهُما وقَدْ قالَ اللَّهُ لِمُوسى ”لا تَخَفْ“ وقَبْلَهُ قِيلَ لِلُوطٍ. فَهم مُؤَمَّنُونَ مِن خَوْفِ ما لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهم إنَّكم مِنهُ مَعْصُومُونَ اهـ. وحاصِلُ جَوابِهِ: أنَّ ذَلِكَ قَدْ عَرَضَ لِلْأنْبِياءِ إذْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِن إصابَةِ الضُّرِّ حَتّى يُؤَمِّنَ اللَّهُ أحَدَهم فَيَطْمَئِنَّ، واللَّهُ لَمْ يُؤَمِّنْ داوُدَ فَلِذَلِكَ فَزِعَ. وهو جَوابٌ غَيْرُ تامِّ الإقْناعِ لِأنَّ السُّؤالَ تَضَمَّنَ قَوْلَ السّائِلِ وقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوءَةِ فَجَعَلَ السّائِلُ انْتِفاءَ تَطَرُّقِ الخَوْفِ إلى نُفُوسِ الأنْبِياءِ أصْلًا بَنى عَلَيْهِ سُؤالَهُ، وهو أجابَ بِانْتِفاءِ التَّأْمِينِ فَلَمْ يُطابِقْ سُؤالَ السّائِلِ. وكانَ الوَجْهُ أنْ يَنْفِيَ في الجَوابِ سَلامَةَ الأنْبِياءِ مِن تَطَرُّقِ الخَوْفِ إلَيْهِمْ. والأحْسَنُ أنْ نُجِيبَ أوَّلًا بِأنَّ الخَوْفَ انْفِعالٌ جِبْلِيٌّ وضَعَهُ اللَّهُ في أحْوالِ النُّفُوسِ عِنْدَ رُؤْيَةِ المَكْرُوهِ، فَلا تَخْلُو مِن بَوادِرِهِ نُفُوسُ البَشَرِ فَيَعْرِضُ لَها ذَلِكَ الِانْفِعالُ بادِئَ ذِي بَدْءٍ ثُمَّ يَطْرَأُ (ص-٢٣٣)عَلَيْهِ ثَباتُ الشَّجاعَةِ فَتَدْفَعُهُ عَلى النَّفْسِ، ونُفُوسُ النّاسِ مُتَفاوِتَةٌ في دَوامِهِ وانْقِشاعِهِ، فَأمّا إذا أمَّنَ اللَّهُ نَبِيئًا فَذَلِكَ مَقامٌ آخَرُ كَقَوْلِهِ لِمُوسى: ”لا تَخَفْ“ وقَوْلِهِ لِلنَّبِيءِ ﷺ - ”﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٣٧]“ . وثانِيًا: بِأنَّ الَّذِي حَصَلَ لِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَزَعٌ ولَيْسَ بِخَوْفٍ. والفَزَعُ أعَمُّ مِنَ الخَوْفِ إذْ هو اضْطِرابٌ يَحْصُلُ مِنَ الإحْساسِ بِشَيْءٍ شَأْنُهُ أنْ يَتَخَلَّصَ مِنهُ، وقَدْ جاءَ في حَدِيثِ خُسُوفِ الشَّمْسِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ فَزِعًا، أيْ مُسْرِعًا مُبادِرًا لِلصَّلاةِ تَوَقُّعًا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الخُسُوفُ نَذِيرَ عَذابٍ»، ولِذَلِكَ قالَ القُرْآنُ ”﴿فَفَزِعَ مِنهُمْ﴾“ ولَمْ يَقُلْ: خافَ. وقالَ في إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿فَأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً﴾ [الذاريات: ٢٨] أيْ تَوَجُّسًا ما لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الخَوْفِ. وأمّا قَوْلُ الخَصْمِ لِداوُدَ ”لا تَخَفْ“ فَهو قَوْلٌ يَقُولُهُ القادِمُ بِهَيْئَةٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ مِن شَأْنِها أنْ تُرِيبَ النّاظِرَ. وثالِثًا: أنَّ الأنْبِياءَ مَأْمُورُونَ بِحِفْظِ حَياتِهِمْ لِأنَّ حَياتَهم خَيْرٌ لِلْأُمَّةِ، فَقَدْ يَفْزَعُ النَّبِيءُ مِن تَوَقُّعِ خَطَرٍ خَشْيَةَ أنْ يَكُونَ سَبَبًا في هَلاكِهِ فَيَنْقَطِعَ الِانْتِفاعُ بِهِ لِأُمَّتِهِ. وقَدْ جاءَ في حَدِيثِ عائِشَةَ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ - أرِقَ ذاتَ لَيْلَةٍ فَقالَ: ”لَيْتَ رَجُلًا صالِحًا مِن أصْحابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ“ إذْ سَمِعْنا صَوْتَ السِّلاحِ فَقالَ: ”مَن هَذا ؟“ قالَ: سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ جِئْتُ لِأحْرُسَكَ. قالَتْ: فَنامَ النَّبِيءُ ﷺ حَتّى سَمِعْنا غَطِيطَهُ»، ورَوى التِّرْمِذِيُّ «أنَّ العَبّاسَ كانَ يَحْرُسُ النَّبِيءَ ﷺ حَتّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] فَتُرِكَتِ الحِراسَةُ» . ومَعْنى ”بَغى بَعْضُنا“ اعْتَدى وظَلَمَ. والبَغْيُ: الظُّلْمُ، والجُمْلَةُ صِفَةٌ لِـ ”خَصْمانِ“ والرّابِطُ ضَمِيرُ ”بَعْضُنا“، وجاءَ ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ ومَعَهُ غَيْرُهُ رَعْيًا لِمَعْنى ”خَصْمانِ“ . ولَمْ يُبَيِّنا الباغِيَ مِنهُما لِأنَّ مَقامَ تَسْكِينِ رَوْعِ داوُدَ يَقْتَضِي الإيجازَ بِالإجْمالِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ، ولِإظْهارِ الأدَبِ مَعَ الحاكِمِ فَلا يَتَوَلَّيانِ تَعْيِينَ الباغِي مِنهُما بَلْ يَتْرُكانِهِ لِلْحاكِمِ يُعَيِّنُ الباغِيَ مِنهُما في حُكْمِهِ حِينَ قالَ لِأحَدِهِما: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ﴾ [ص: ٢٤] . والفاءُ في ﴿فاحْكم بَيْنَنا بِالحَقِّ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلِهِ ”خَصْمانِ“ لِأنَّ داوُدَ - عَلَيْهِ (ص-٢٣٤)السَّلامُ - لَمّا كانَ مَلِكًا وكانَ اللَّذانِ حَضَرا عِنْدَهُ خَصْمَيْنِ كانَ طَلَبُ الحُكْمِ بَيْنَهُما مُفَرَّعًا عَلى ذَلِكَ. والباءُ في ”بِالحَقِّ“ لِلْمُلابَسَةِ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ”احْكم“، وهَذا مُجَرَّدُ طَلَبٍ مِنهُما لِلْحَقِّ «كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلنَّبِيءِ ﷺ - الَّذِي افْتَدى ابْنَهُ مِمَّنْ زَنى بِامْرَأتِهِ: ”فاحْكم بَيْنَنا بِكِتابِ اللَّهِ“» . والنَّهْيُ في ”لا تُشْطِطْ“ مُسْتَعْمَلٌ في التَّذْكِيرِ والإرْشادِ. وتُشْطِطْ: مُضارِعُ أشَطَّ، يُقالُ: أشَطَّ عَلَيْهِ، إذا جارَ عَلَيْهِ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّطَطِ وهو مُجاوَزَةُ الحَدِّ والقَدْرِ المُتَعارَفِ. ومُخاطَبَةُ الخَصْمِ داوُدَ بِهَذا خارِجَةٌ مَخْرَجَ الحِرْصِ عَلى إظْهارِ الحَقِّ، وهو في مَعْنى الذِّكْرى بِالواجِبِ فَلِذَلِكَ لا يُعَدُّ مِثْلُها جَفاءً لِلْحاكِمِ والقاضِي، وهو مِن قَبِيلِ: اتَّقِ اللَّهَ في أمْرِي. وصُدُورُهُ قَبْلَ الحُكْمِ أقْرَبُ إلى مَعْنى التَّذْكِيرِ وأبْعَدُ عَنِ الجَفاءِ، فَإنْ وقَعَ بَعْدَ الحُكْمِ كانَ أقْرَبَ إلى الجَفاءِ «كالَّذِي قالَ لِلنَّبِيءِ ﷺ - في قِسْمَةٍ قَسَّمَها: ”اعْدِلْ، فَقالَ لَهُ الرَّسُولُ: ويْلَكَ فَمَن يَعْدِلُ إنْ لَمْ أعْدِلْ“» . وقَدْ قالَ عُلَماؤُنا في قَوْلِ الخَصْمِ لِلْقاضِي ”اتَّقِ اللَّهَ في أمْرِي“: إنَّهُ لا يُعَدُّ جَفاءً لِلْقاضِي ولا يَجُوزُ لِلْقاضِي أنْ يُعاقِبَهُ عَلَيْهِ كَما يُعاقِبُ مَن أساءَ إلَيْهِ. وأفْتى مالِكٌ بِسَجْنِ فَتًى، فَقالَ أبُوهُ لِمالِكٍ: اتَّقِ اللَّهَ يا مالِكُ، فَواللَّهِ ما خُلِقَتِ النّارُ باطِلًا، فَقالَ مالِكٌ: مِنَ الباطِلِ ما فَعَلَهُ ابْنُكَ. فَهَذا فِيهِ زِيادَةٌ بِالتَّعْرِيضِ بِقَوْلِهِ: فَواللَّهِ ما خُلِقَتِ النّارُ باطِلًا. وقَوْلُهُما ﴿واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾ يَصْرِفُ عَنْ إرادَةِ الجَفاءِ مِن قَوْلِهِما ”ولا تُشْطِطْ“ لِأنَّهُما عَرَفا أنَّهُ لا يَقُولُ إلّا حَقًّا وأنَّهُما تَطَلَّبا مِنهُ الهُدى. والهُدى: هُنا مُسْتَعارٌ لِلْبَيانِ وإيضاحِ الصَّوابِ. وسَواءُ الصِّراطِ: مُسْتَعارٌ لِلْحَقِّ الَّذِي لا يَشُوبُهُ باطِلٌ لِأنَّ الصِّراطَ الطَّرِيقُ الواسِعُ، والسَّواءُ مِنهُ هو الَّذِي لا التِواءَ فِيهِ ولا شَعْبَ تَتَشَعَّبُ مِنهُ فَهو أسْرَعُ إيصالًا إلى المَقْصُودِ بِاسْتِوائِهِ وأبْعَدُ عَنِ الِالتِباسِ بِسَلامَتِهِ مِنَ التَّشَعُّبِ. (ص-٢٣٥)ومَجْمُوعُ ﴿واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾ تَمْثِيلٌ لِحالِ الحاكِمِ بِالعَدْلِ بِحالِ المُرْشِدِ الدّالِّ عَلى الطَّرِيقِ المُوَصِّلَةِ فَهو مِنَ التَّمْثِيلِ القابِلِ تَجْزِئَةَ التَّشْبِيهِ في أجْزائِهِ، ويُؤْخَذُ مِن هُنا أنَّ حُكْمَ القاضِي العَدْلِ يُحْمَلُ عَلى الجَرْيِ عَلى الحَقِّ، وأنَّ الحُكْمَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ بِالحَقِّ شَرْعًا لِأنَّهُ هَدْيٌ فَهو والفُتْيا سَواءٌ في أنَّهُما هُدًى إلّا أنَّ الحُكْمَ فِيهِ إلْزامٌ. ومَعْنى ”أكْفِلْنِيها“ اجْعَلْها في كَفالَتِي، أيْ حِفْظِي، وهو كِنايَةٌ عَنِ الإعْطاءِ والهِبَةِ، أيْ هَبْها لِي. وجُمْلَةُ ”إنَّ هَذا أخِي“ إلى آخِرِها بَيانٌ لِجُمْلَةِ ﴿خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾، وظاهِرُ الأخِ أنَّهُما أرادا أُخُوَّةَ النَّسَبِ. وقَدْ فَرَضا أنْفُسَهُما أخَوَيْنِ وفَرَضا الخُصُومَةَ في مُعامَلاتِ القَرابَةِ وعَلاقَةِ النَّسَبِ واسْتِبْقاءِ الصِّلاتِ، ثُمَّ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”أخِي“ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الإشارَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرَ (إنَّ) وهو أوْلى لِأنَّ فِيهِ زِيادَةَ اسْتِفْظاعِ اعْتِدائِهِ عَلَيْهِ. و”عَزَّنِي“ غَلَبَنِي في مُخاطَبَتِهِ، أيْ أظْهَرَ في الكَلامِ عِزَّةً عَلِيَّ وتَطاوُلًا. فَجَعَلَ الخِطابَ ظَرْفًا لِلْعِزَّةِ مَجازًا لِأنَّ الخِطابَ دَلَّ عَلى العِزَّةِ والغَلَبَةِ فَوَقَعَ تَنْزِيلَ المَدْلُولِ مَنزِلَةَ المَظْرُوفِ، وهو كَثِيرٌ في الِاسْتِعْمالِ. والمَعْنى: أنَّهُ سَألَهُ أنْ يُعْطِيَهُ نَعْجَتَهُ، ولَمّا رَأى مِنهُ تَمَنُّعًا اشْتَدَّ عَلَيْهِ بِالكَلامِ وهَدَّدَهُ، فَأظْهَرَ الخَصْمُ المُتَشَكِّي أنَّهُ يُحافِظُ عَلى أواصِرِ القَرابَةِ فَشَكاهُ إلى المَلِكِ لِيَصُدَّهُ عَنْ مُعامَلَةِ أخِيهِ مُعامَلَةَ الجَفاءِ والتَّطاوُلِ لِيَأْخُذَ نَعْجَتَهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ. وبِهَذا يَتَبَيَّنُ أنَّ مَوْضِعَ هَذا التَّحاكُمِ طَلَبُ الإنْصافِ في مُعامَلَةِ القَرابَةِ لِئَلّا يُفْضِيَ الخِلافُ بَيْنَهم إلى التَّواثُبِ فَتَنْقَطِعَ أواصِرُ المَبَرَّةِ والرَّحْمَةِ بَيْنَهم. وقَدْ عَلِمَ داوُدُ مِن تَساوُقِهِما لِلْخُصُومَةِ ومِن سُكُوتِ أحَدِ الخَصْمَيْنِ أنَّهُما مُتَقارِبانِ عَلى ما وصَفَهُ الحاكِي مِنهُما، أوْ كانَ المُدَّعى عَلَيْهِ قَدِ اعْتَرَفَ. فَحَكَمَ داوُدُ بِأنَّ سُؤالَ الأخِ أخاهُ نَعْجَتَهُ ظُلْمٌ لِأنَّ السّائِلَ في غِنًى عَنْها والمَسْئُولُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُها، فَرَغْبَةُ السّائِلِ فِيما بِيَدِ أخِيهِ مِن فَرْطِ الحِرْصِ عَلى المالِ (ص-٢٣٦)واجْتِلابِ النَّفْعِ لِلنَّفْسِ بِدُونِ اكْتِراثٍ بِنَفْعِ الآخَرِ. وهَذا لَيْسَ مِن شَأْنِ التَّحابِّ بَيْنَ الأخَوَيْنِ والإنْصافِ مِنهُما فَهو ظُلْمٌ، وما كانَ مِنَ الحَقِّ أنْ يَسْألَهُ ذَلِكَ أعْطاهُ أوْ مَنَعَهُ، ولِأنَّهُ تَطاوَلَ عَلَيْهِ في الخِطابِ ولامَهُ عَلى عَدَمِ سَماحِ نَفْسِهِ بِالنَّعْجَةِ، وهَذا ظُلْمٌ أيْضًا. والإضافَةُ في قَوْلِهِ ”﴿بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ﴾ [ص: ٢٤]“ لِلتَّعْرِيفِ، أيْ هَذا السُّؤالِ الخاصِّ المُتَعَلِّقِ بِنَعْجَةٍ مَعْرُوفَةٍ، أيْ: هَذا السُّؤالُ بِحَذافِرِهِ مُشْتَمِلٌ عَلى ظُلْمٍ، وإضافَةُ سُؤالٍ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ. وتَعْلِيقُ ”إلى نِعاجِهِ“ بِـ ”سُؤالِ“ تَعْلِيقٌ عَلى وجْهِ تَضْمِينِ ”سُؤالِ“ مَعْنى الضَّمِّ، كَأنَّهُ قِيلَ: بِطَلَبِ ضَمِّ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ. فَهَذا جَوابُ قَوْلِهِما ﴿فاحْكم بَيْنَنا بِالحَقِّ ولا تُشْطِطْ﴾ ثُمَّ أعْقَبَهُ بِجَوابِ قَوْلِهِما ﴿واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾، إذْ قالَ ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [ص: ٢٤] المُفِيدِ أنَّ بَغْيَ أحَدِ المُتَعاشِرَيْنِ عَلى عَشِيرِهِ مُتَفَشٍّ بَيْنَ النّاسِ غَيْرِ الصّالِحِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وهو كِنايَةٌ عَنْ أمْرِهِما بِأنْ يَكُونا مِنَ المُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ وأنَّ ما فَعَلَهُ أحَدُهُما لَيْسَ مِن شَأْنِ الصّالِحِينَ. وذِكْرُ غالِبِ أحْوالِ الخُلَطاءِ أرادَ بِهِ المَوْعِظَةَ لَهُما بَعْدَ القَضاءِ بَيْنَهُما عَلى عادَةِ أهْلِ الخَيْرِ مِنِ انْتِهازِ فُرَصِ الهِدايَةِ، فَأرادَ داوُدُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنْ يُرَغِّبَهُما في إيثارِ عادَةِ الخُلَطاءِ الصّالِحِينَ وأنْ يُكَرِّهَ إلَيْهِما الظُّلْمَ والِاعْتِداءَ. ويُسْتَفادُ مِنَ المَقامِ أنَّهُ يَأْسَفُ لِحالِهِما، وأنَّهُ أرادَ تَسْلِيَةَ المَظْلُومِ عَمّا جَرى عَلَيْهِ مِن خَلِيطِهِ، وأنَّ لَهُ أُسْوَةً في أكْثَرِ الخُلَطاءِ. وفِي تَذْيِيلِ كَلامِهِ بِقَوْلِهِ ”وقَلِيلٌ ما هم“ حَثٌّ لَهُما أنْ يَكُونا مِنَ الصّالِحِينَ لِما هو مُتَقَرَّرٌ في النُّفُوسِ مِن نَفاسَةِ كُلِّ شَيْءٍ قَلِيلٍ، قالَ تَعالى ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ والطَّيِّبُ ولَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ﴾ [المائدة: ١٠٠]، والسَّبَبُ في ذَلِكَ مِن جانِبِ الحِكْمَةِ أنَّ الدَّواعِيَ إلى لَذّاتِ الدُّنْيا كَثِيرَةٌ والمَشْيَ مَعَ الهَوى مَحْبُوبٌ ومُجاهَدَةَ النَّفْسِ عَزِيزَةُ الوُقُوعِ، فالإنْسانُ مَحْفُوفٌ بِجَواذِبِ السَّيِّئاتِ، وأمّا دَواعِي الحَقِّ والكَمالِ فَهو الدِّينُ والحِكْمَةُ، وفي أسْبابِ الكَمالِ إعْراضٌ عَنْ مُحَرِّكاتِ (ص-٢٣٧)الشَّهَواتِ، وهو إعْراضٌ عَسِيرٌ لا يَسْلُكُهُ إلّا مَن سَما بِدِينِهِ وهِمَّتِهِ إلى الشَّرَفِ النَّفْسانِيِّ وأعْرَضَ عَنِ الدّاعِي الشَّهْوانِيِّ، فَذَلِكَ هو العِلَّةُ في هَذا الحُكْمِ بِالقِلَّةِ. وزِيادَةُ (ما) بَعْدَ ”قَلِيلٌ“ لِقَصْدِ الإبْهامِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا في قَوْلِهِ ﴿جُنْدٌ ما هُنالِكَ﴾ [ص: ١١]، وفي هَذا الإبْهامِ إيذانٌ بِالتَّعَجُّبِ مِن ذَلِكَ بِمَعُونَةِ السِّياقِ والمَقامِ كَما أفادَتْ زِيادَتُها في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎وحَدِيثُ الرَّكْبِ يَوْمَ هُنا وحَدِيثٌ ما عَلى قِصَرِهْ مَعْنى التَّلَهُّفِ والتَّشَوُّقِ. وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في ماهِيَّةِ هَذَيْنِ الخَصْمَيْنِ، فَقالَ السُّدِّيُّ والحَسَنُ ووَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كانا مَلَكَيْنِ أرْسَلَهُما اللَّهُ في صُورَةِ رَجُلَيْنِ لِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِإبْلاغِ هَذا المَثَلِ إلَيْهِ عِتابًا لَهُ. ورَواهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا. وقَيلَ: كانا أخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، أيْ ألْهَمَهُما اللَّهُ إيقاعَ هَذا الوَعْظِ. واعْلَمْ أنَّ سَوْقَ هَذا النَّبَأِ عَقِبَ التَّنْوِيهِ بِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَيْسَ إلّا تَتْمِيمًا لِلتَّنْوِيهِ بِهِ لِدَفْعِ ما قَدْ يُتَوَهَّمُ أنَّهُ يَنْقُضُ ما ذَكَرَ مِن فَضائِلِهِ مِمّا جاءَ في كِتابِ صَمْوِيلَ الثّانِي مِن كُتُبِ اليَهُودِ في ذِكْرِ هَذِهِ القِصَّةِ مِن أغْلاطٍ باطِلَةٍ تُنافِي مَقامَ النُّبُوءَةِ، فَأُرِيدَ بَيانُ المِقْدارِ الصّادِقِ مِنها وتَذْيِيلُهُ بِأنَّ ما صَدَرَ عَنْ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يَسْتَوْجِبُ العِتابَ ولا يَقْتَضِي العِقابَ، ولِذَلِكَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: ٢٥] . وبِهَذا تَعْلَمُ أنْ لَيْسَ لِهَذا النَّبَأِ تَعَلُّقٌ بِالمَقْصِدِ الَّذِي سِيقَ لِأجْلِهِ ذِكْرُ داوُدَ ومَن عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الأنْبِياءِ. وهَذا النَّبَأُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ يُشِيرُ بِهِ إلى قِصَّةِ تَزَوُّجِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - زَوْجَةَ (أُورَيا الحَثِّيِّ) مِن رِجالِ جَيْشِهِ، وكانَ داوُدُ رَآها فَمالَ إلَيْها ورامَ تَزَوُّجَها، فَسَألَهُ أنْ يَتَنازَلَ لَهُ عَنْها، وكانَ في شَرِيعَتِهِمْ مُباحًا أنَّ الرَّجُلَ يَتَنازَلُ عَنْ زَوْجِهِ إلى غَيْرِهِ لِصَداقَةٍ بَيْنَهُما فَيُطَلِّقُها ويَتَزَوَّجُها الآخَرُ بَعْدَ مُضِيِّ عِدَّتِها وتَحَقُّقِ بَراءَةِ رَحِمِها كَما كانَ ذَلِكَ في صَدْرِ الإسْلامِ. وخَرَجَ أُورَيا في غَزْوِ مَدِينَةِ (رَبَّةَ) لِلْعَمُونِيِّينَ، وقِيلَ في غَزْوِ (ص-٢٣٨)٧٢ عَمّانَ قَصَبَةِ البَلْقاءِ مِن فِلَسْطِينَ فَقُتِلَ في الحَرْبِ، وكانَ اسْمُ المَرْأةِ (بَثَشْبَعُ بِنْتُ ألْيَعامِ) وهي أُمُّ سُلَيْمانَ وحَكى القُرْآنُ اكْتِفاءً بِأنَّ نَبَأ الخَصْمَيْنِ يُشْعِرُ بِها لِأنَّ العِبْرَةَ بِما أعْقَبَهُ نَبَأُ الخَصْمَيْنِ في نَفْسِ داوُدَ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلى داوُدَ أنِ اسْتَعْمَلَ لِنَفْسِهِ هَذا المُباحَ فَعاتَبَهُ بِهَذا المَثَلِ المُشَخَّصِ، أرْسَلَ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ نَزَلا مِن أعْلى سُورِ المِحْرابِ في صُورَةِ خَصْمَيْنِ وقَصّا عَلَيْهِ القِصَّةَ وطَلَبا حُكْمَهُ وهَدْيَهُ، فَحَكَمَ بَيْنَهُما وهَداهُما بِما تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لِتَكُونَ تِلْكَ الصُّورَةُ عِظَةً لَهُ، ويُشْعِرُ أنَّهُ كانَ الألْيَقُ بِمَقامِهِ أنْ لا يَتَناوَلَ هَذا الزَّواجَ وإنْ كانَ مُباحًا لِما فِيهِ مِن إيثارِ نَفْسِهِ بِما هو لِغَيْرِهِ ولَوْ بِوَجْهٍ مُباحٍ؛ لِأنَّ الشُّعُورَ بِحُسْنِ الفِعْلِ أوْ قُبْحِهِ قَدْ لا يَحْصُلُ عَلَيْهِ حِينَ يَفْعَلُهُ فَإذا رَأى أوْ سَمِعَ أنَّ واحِدًا عَمِلَهُ شَعَرَ بِوَصْفِهِ. ووَقَعَ في سِفْرِ صَمْوِيلِ الثّانِي مِن كُتُبِ اليَهُودِ سَوْقُ هَذِهِ القِصَّةِ عَلى الخِلافِ هَذا. ولَيْسَ في قَوْلِ الخَصْمَيْنِ ”هَذا أخِي“ ولا في فَرْضِهِما الخُصُومَةَ الَّتِي هي غَيْرُ واقِعَةٍ ارْتِكابُ الكَذِبِ لِأنَّ هَذا مِنَ الأخْبارِ المُخالِفَةِ لِلْواقِعِ الَّتِي لا يُرِيدُ المُخْبِرُ بِها أنْ يَظُنَّ المُخْبَرُ ”بِالفَتْحِ“ وُقُوعَها إلّا رَيْثَما يَحْصُلُ الغَرَضُ مِنَ العِبْرَةِ بِها، ثُمَّ يَنْكَشِفُ لَهُ باطِنُها فَيَعْلَمُ أنَّها لَمْ تَقَعْ. وما يَجْرِي في خِلالِها مِنَ الأوْصافِ والنِّسَبِ غَيْرِ الواقِعَةِ فَإنَّما هو عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ وعَلى نِيَّةِ المُشابَهَةِ. وفِي هَذا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلى جَوازِ وضْعِ القَصَصِ التَّمْثِيلِيَّةِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنها التَّرْبِيَةُ والمَوْعِظَةُ ولا يَتَحَمَّلُ واضِعُها جُرْحَةَ الكَذِبِ خِلافًا لِلَّذِينِ نَبَزُوا الحَرِيرِيَّ بِالكَذِبِ في وضْعِ المَقاماتِ كَما أشارَ هو إلَيْهِ في دِيباجَتِها. وفِيها دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِجَوازِ تَمْثِيلِ تِلْكَ القَصَصِ بِالأجْسامِ إذا لَمْ تُخالِفِ الشَّرِيعَةَ، ومِنهُ تَمْثِيلُ الرِّواياتِ والقَصَصِ في دِيارِ التَّمْثِيلِ، فَإنَّ ما يَجْرِي في شَرْعِ مَن قَبْلَنا يَصْلُحُ دَلِيلًا لَنا في شَرْعِنا إذا حَكاهُ القُرْآنُ أوْ سُنَّةُ النَّبِيءِ ﷺ ولَمْ يَرِدْ في شَرْعِنا ما يَنْسَخُهُ. وأُخِذَ مِنَ الآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ القَضاءِ في المَسْجِدِ، قالُوا: ولَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ سِوى هَذِهِ الآيَةِ بِناءً عَلى أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا إذا حَكاهُ الكِتابُ أوِ السُّنَّةُ. (ص-٢٣٩)وقَدْ حُكِيَتْ هَذِهِ القِصَّةُ في سِفْرِ صَمْوِيلِ الثّانِي في الإصْحاحِ الحادِيَ عَشَرَ عَلى خِلافِ ما في القُرْآنِ وعَلى خِلافِ ما تَقْتَضِيهِ العِصْمَةُ لِنُبُوءَةِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فاحْذَرُوهُ. والَّذِي في القُرْآنِ هو الحَقُّ، والمُنْتَظِمُ مَعَ المُعْتادِ وهو المُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، ولَوْ حُكِيَ ذَلِكَ بِخَبَرِ آحادٍ في المُسْلِمِينَ لَوَجَبَ رَدُّهُ والجَزْمُ بِوَضْعِهِ لِمُعارَضَتِهِ المَقْطُوعَ بِهِ مِن عِصْمَةِ الأنْبِياءِ مِنَ الكَبائِرِ عِنْدَ جَمِيعِ أهْلِ السُّنَّةِ ومِنَ الصَّغائِرِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ مِنهم وهو المُخْتارُ.