undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ الِانْتِقالُ مِن غَرَضٍ إلى غَرَضٍ، في آيِ القُرْآنِ، لا تَلْزَمُ لَهُ قُوَّةُ ارْتِباطٍ، لِأنَّ القُرْآنَ لَيْسَ كِتابَ تَدْرِيسٍ يُرَتَّبُ بِالتَّبْوِيبِ وتَفْرِيعِ المَسائِلِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ ولَكِنَّهُ كِتابُ تَذْكِيرٍ، ومَوْعِظَةٍ فَهو مَجْمُوعُ ما نَزَلَ مِنَ الوَحْيِ في هَدْيِ الأُمَّةِ، وتَشْرِيعِها ومَوْعِظَتِها، وتَعْلِيمِها، فَقَدْ يُجْمَعُ فِيهِ الشَّيْءُ لِلشَّيْءِ، مِن غَيْرِ لُزُومِ ارْتِباطٍ، وتَفَرُّعِ مُناسَبَةٍ، ورُبَّما كَفى في ذَلِكَ نُزُولُ الغَرَضِ الثّانِي، عَقِبَ الغَرَضِ الأوَّلِ، أوْ تَكُونُ الآيَةُ مَأْمُورًا بِإلْحاقِها بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِن إحْدى سُوَرِ القُرْآنِ. كَما تَقَدَّمَ في المُقَدِّمَةِ الثّامِنَةِ، ولا يَخْلُو ذَلِكَ مِن مُناسَبَةٍ في المَعانِي، أوْ في انْسِجامِ نَظْمِ الكَلامِ، فَلَعَلَّ آيَةَ ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ﴾ نَزَلَتْ عَقِبَ آياتِ تَشْرِيعِ العِدَّةِ والطَّلاقِ، لِسَبَبٍ اقْتَضى ذَلِكَ: مِن غَفْلَةٍ عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى، أوِ اسْتِشْعارِ مَشَقَّةٍ في المُحافَظَةِ عَلَيْها، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ مَوْقِعُ الجُمْلَةِ المُعْتَرِضَةِ بَيْنَ أحْكامِ الطَّلاقِ والعَدَدِ، وإذا أبَيْتَ ألّا تَطْلُبَ الِارْتِباطَ فالظّاهِرُ أنَّهُ لَمّا طالَ تِبْيانُ أحْكامٍ كَثِيرَةٍ مُتَوالِيَةٍ: ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥]، جاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُرْتَبِطَةً بِالتَّذْيِيلِ الَّذِي ذُيِّلَتْ بِهِ الآيَةُ السّابِقَةُ: وهو قَوْلُهُ ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] فَإنَّ اللَّهَ دَعانا إلى خُلُقٍ حُمَيْدٍ، وهو العَفْوُ عَنِ الحُقُوقِ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ الخُلُقُ قَدْ يَعْسُرُ عَلى النَّفْسِ، لِما فِيهِ مِن تَرْكِ ما تُحِبُّهُ مِنَ المَلائِمِ، مِن مالٍ وغَيْرِهِ: كالِانْتِقامِ مِنَ الظّالِمِ، وكانَ في طِباعِ الأنْفُسِ الشُّحُّ، عَلَّمَنا اللَّهُ تَعالى دَواءَ (ص-٤٦٦)هَذا الدّاءِ بِدَواءَيْنِ، أحَدُهُما دُنْيَوِيٌّ عَقْلِيٌّ، وهو قَوْلُهُ ﴿ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، المُذَكِّرُ بِأنَّ العَفْوَ يُقَرِّبُ إلَيْكَ البَعِيدَ، ويُصَيِّرُ العَدُوَّ صَدِيقًا وإنَّكَ إنْ عَفَوْتَ فَيُوشِكُ أنْ تَقْتَرِفَ ذَنْبًا فَيُعْفى عَنْكَ، إذا تَعارَفَ النّاسُ الفَضْلَ بَيْنَهم، بِخِلافِ ما إذا أصْبَحُوا لا يَتَنازَعُونَ عَنِ الحَقِّ. الدَّواءُ الثّانِي أُخْرَوِيٌّ رُوحانِيٌّ: وهو الصَّلاةُ الَّتِي وصَفَها اللَّهُ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى بِأنَّها تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، فَلَمّا كانَتْ مُعِينَةً عَلى التَّقْوى، ومَكارِمِ الأخْلاقِ، حَثَّ اللَّهُ عَلى المُحافَظَةِ عَلَيْها، ولَكَ أنْ تَقُولَ: لَمّا طالَ تَعاقُبُ الآياتِ المُبَيِّنَةِ تَشْرِيعاتٍ تَغْلُبُ فِيها الحُظُوظُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِلْمُكَلَّفِينَ، عُقِبَّتْ تِلْكَ التَّشْرِيعاتُ بِتَشْرِيعٍ تَغْلِبُ فِيهِ الحُظُوظُ الأُخْرَوِيَّةُ، لِكَيْ لا يَشْتَغِلَ النّاسُ بِدِراسَةِ أحَدِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ التَّشْرِيعِ، عَنْ دِراسَةِ الصِّنْفِ الآخَرِ، قالَ البَيْضاوِيُّ: أُمِرَ بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها في تَضاعِيفِ أحْكامِ الأوْلادِ والأزْواجِ، لِئَلّا يُلْهِيَهُمُ الِاشْتِغالُ بِشَأْنِهِمْ عَنْها. وقالَ بَعْضُهم: (لَمّا ذَكَرَ حُقُوقَ النّاسِ دَلَّهم عَلى المُحافَظَةِ عَلى حُقُوقِ اللَّهِ) وهو في الجُمْلَةِ. مَعَ الإشارَةِ إلى أنَّ في العِنايَةِ بِالصَّلَواتِ أداءَ حَقِّ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعالى عَلى ما وجَّهَ إلَيْنا مِن عِنايَتِهِ بِأُمُورِنا الَّتِي بِها قِوامُ نِظامِنا وقَدْ أوْمَأ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ في آخِرِ الآيَةِ ﴿كَما عَلَّمَكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٩] أيْ مِن قَوانِينِ المُعامَلاتِ النِّظامِيَّةِ. وعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ الآخَرَيْنِ تَكُونُ جُمْلَةُ ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ﴾ مُعْتَرِضَةً ومَوْقِعُها ومَعْناها مِثْلُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: ٤٠] . وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧] . وكَمَوْقِعِ جُمْلَةِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِي﴾ [البقرة: ١٥٠] الآيَةَ وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتٌ﴾ [البقرة: ١٥٤] الآيَةَ. (وحافِظُوا) صِيغَةُ مُفاعَلَةٍ اسْتُعْمِلَتْ هُنا لِلْمُبالَغَةِ عَلى غَيْرِ حَقِيقَتِها. والمُحافَظَةُ عَلَيْها هي المُحافَظَةُ عَلى أوْقاتِها مِن أنْ تُؤَخَّرَ عَنْها والمُحافَظَةُ تُؤْذِنُ بِأنَّ المُتَعَلِّقَ بِها حَقٌّ عَظِيمٌ يُخْشى التَّفْرِيطُ فِيهِ. (ص-٤٦٧)والمُرادُ: الصَّلَواتُ المَفْرُوضَةُ و(ال) في الصَّلَواتِ لِلْعَهْدِ، وهي الصَّلَواتُ الخَمْسُ المُتَكَرِّرَةُ؛ لِأنَّها الَّتِي تُطْلَبُ المُحافَظَةُ عَلَيْها. والصَّلاةِ الوُسْطى لا شَكَّ أنَّها صَلاةٌ مِن جُمْلَةِ الصَّلَواتِ المَفْرُوضَةِ: لِأنَّ الأمْرَ بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها يَدُلُّ عَلى أنَّها مِنَ الفَرائِضِ، وقَدْ ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ مُعَرَّفَةً بِلامِ التَّعْرِيفِ، ومَوْصُوفَةً بِأنَّها وُسْطى، فَسَمِعَها المُسْلِمُونَ وقَرَءُوها، فَإمّا عَرَفُوا المَقْصُودَ مِنها في حَياةِ الرَّسُولِ ﷺ، ثُمَّ طَرَأ عَلَيْهِمُ الِاحْتِمالُ بَعْدَهُ فاخْتَلَفُوا، وإمّا شَغَلَتْهُمُ العِنايَةُ بِالسُّؤالِ عَنْ مُهِمّاتِ الدِّينِ في حَياةِ الرَّسُولِ عَنِ السُّؤالِ عَنْ تَعْيِينِها: لِأنَّهم كانُوا عازِمِينَ عَلى المُحافَظَةِ عَلى الجَمِيعِ، فَلَمّا تَذاكَرُوها بَعْدَ وفاتِهِ ﷺ اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ فَنَبَعَ مِن ذَلِكَ خِلافٌ شَدِيدٌ: أنْهَيْتُ الأقْوالَ فِيهِ إلى نَيِّفٍ وعِشْرِينَ قَوْلًا، بِالتَّفْرِيقِ والجَمْعِ، وقَدْ سَلَكُوا لِلْكَشْفِ عَنْها مَسالِكَ؛ مَرْجِعُها إلى أخْذِ ذَلِكَ مِنَ الوَصْفِ بِالوُسْطى، أوْ مِنِ الوِصايَةِ بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها. فَأمّا الَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِالِاسْتِدْلالِ بِوَصْفِ الوُسْطى: فَمِنهم مَن حاوَلَ جَعْلَ الوَصْفِ مِنَ الوَسَطِ بِمَعْنى الخِيارِ والفَضْلِ، فَرَجَعَ إلى تَتَبُّعِ ما ورَدَ في تَفْضِيلِ بَعْضِ الصَّلَواتِ عَلى بَعْضٍ، مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨] وحَدِيثِ عائِشَةَ «أفْضَلُ الصَّلَواتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلاةُ المَغْرِبِ» . ومِنهم مَن حاوَلَ جَعْلَ الوَصْفِ مِنَ الوَسَطِ: وهو الواقِعُ بَيْنَ جانِبَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ مِنَ العَدَدِ فَذَهَبَ يَتَطَلَّبُ الصَّلاةَ الَّتِي هي بَيْنَ صَلاتَيْنِ مِن كُلِّ جانِبٍ، ولَمّا كانَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ صالِحَةً لِأنْ تُعْتَبَرَ واقِعَةً بَيْنَ صَلاتَيْنِ، لِأنَّ ابْتِداءَ الأوْقاتِ اعْتِبارِيٌّ، ذَهَبُوا يُعَيِّنُونَ المَبْدَأ: فَمِنهم مَن جَعَلَ المَبْدَأ ابْتِداءَ النَّهارِ، فَجَعَلَ مَبْدَأ الصَّلَواتِ الخَمْسِ صَلاةَ الصُّبْحِ فَقُضِيَ بِأنَّ الوُسْطى: العَصْرُ، ومِنهم مَن جَعَلَ المَبْدَأ الظَّهْرَ، لِأنَّها أوَّلُ صَلاةٍ فُرِضَتْ؛ كَما في حَدِيثِ جِبْرِيلَ في المُوَطَّأِ، فَجَعَلَ الوُسْطى: المَغْرِبَ. وأمّا الَّذِينَ تَعَقَّلُوا بِدَلِيلِ الوِصايَةِ عَلى المُحافَظَةِ، فَذَهَبُوا يَتَطَلَّبُونَ أشَقَّ صَلاةٍ عَلى النّاسِ: تَكْثُرُ المُتَطَلَّباتُ عَنْها، فَقالَ قَوْمٌ: هي الظُّهْرُ لِأنَّها أشَقُّ صَلاةٍ عَلَيْهِمْ بِالمَدِينَةِ، كانُوا أهْلَ شُغْلٍ، وكانَتْ تَأْتِيهِمُ الظُّهْرُ وهم قَدْ أتْعَبَتْهم أعْمالُهم، ورُبَّما كانُوا في إكْمالِ أعْمالِهِمْ، وقالَ قَوْمٌ: هي العِشاءُ؛ لِما ورَدَ أنَّها أثْقَلُ صَلاةٍ عَلى المُنافِقِينَ، وقالَ بَعْضُهم: هي العَصْرُ لِأنَّها وقْتُ شُغْلٍ وعَمَلٍ؛ وقالَ قَوْمٌ: هي الصُّبْحُ لِأنَّها وقْتُ نَوْمٍ في الصَّيْفِ، ووَقْتُ تَطَلُّبِ الدِّفْءِ في الشِّتاءِ. (ص-٤٦٨)وأصَحُّ ما في هَذا الخِلافِ: ما جاءَ مِن جِهَةِ الأثَرِ وذَلِكَ قَوْلانِ: أحَدُهُما أنَّها الصُّبْحُ. هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهاءِ المَدِينَةِ، وهو قَوْلُ عُمَرَ، وابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وعَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وعائِشَةَ، وحَفْصَةَ، وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وبِهِ قالَ مالِكٌ، وهو عَنِ الشّافِعِيِّ أيْضًا، لِأنَّ الشّائِعَ عِنْدَهم أنَّها الصُّبْحُ، وهم أعْلَمُ النّاسِ بِما يُرْوى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مِن قَوْلٍ، أوْ فِعْلٍ، أوْ قَرِينَةِ حالٍ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّها العَصْرُ، وهَذا قَوْلُ جُمْهُورٍ مِن أهْلِ الحَدِيثِ، وهو قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أيْضًا، وهو الأصَحُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، وأبِي هُرَيْرَةَ، وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، ونُسِبَ إلى عائِشَةَ، وحَفْصَةَ، والحَسَنِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ في رِوايَةٍ، ومالَ إلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ المالِكِيَّةِ، وحُجَّتُهم ما رُوِيَ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ يَوْمَ الخَنْدَقِ حِينَ نَسِيَ أنْ يُصَلِّيَ العَصْرَ مِن شِدَّةِ الشُّغْلِ في حَفْرِ الخَنْدَقِ، حَتّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقالَ: شَغَلُونا - أيِ المُشْرِكُونَ - عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى، أضْرَمَ اللَّهُ قُبُورَهم نارًا» . والأصَحُّ مِن هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ أوَّلُهُما: لِما في المُوَطَّأِ والصَّحِيحَيْنِ، أنْ عائِشَةَ وحَفْصَةَ أمَرَتا كاتِبَيْ مُصْحَفَيْهِما أنْ يَكْتُبا قَوْلَهُ تَعالى (حافَظُوا عَلى الصَّلَواتِ الوُسْطى وصَلاةِ العَصْرِ وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وأسْنَدَتْ عائِشَةُ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَمْ تُسْنِدْهُ حَفْصَةُ، فَإذا بَطَلَ أنْ تَكُونَ الوُسْطى هي العَصْرَ، بِحُكْمِ عَطْفِها عَلى الوُسْطى تَعَيَّنَ كَوْنُها الصُّبْحَ، هَذا مِن جِهَةِ الأثَرِ. وأمّا مِن جِهَةِ مَسالِكِ الأدِلَّةِ المُتَقَدِّمَةِ، فَأفْضَلِيَّةُ الصُّبْحِ ثابِتَةٌ بِالقُرْآنِ، قالَ تَعالى، مُخَصِّصًا لَها بِالذِّكْرِ ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨] وفي الصَّحِيحِ أنَّ مَلائِكَةَ اللَّيْلِ، ومَلائِكَةَ النَّهارِ، يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، وتَوَسُّطُها بِالمَعْنى الحَقِيقِيِّ ظاهِرٌ، لِأنَّ وقْتَها بَيْنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ، فالظُّهْرُ والعَصْرُ نَهارِيَّتانِ، والمَغْرِبُ والعِشاءُ لَيْلِيَّتانِ، والصُّبْحُ وقْتٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الوَقْتَيْنِ، حَتّى إنَّ الشَّرْعَ عامَلَ نافِلَتَهُ مُعامَلَةَ نَوافِلِ النَّهارِ: فَشَرَعَ فِيها الإسْرارَ، وفَرِيضَتَهُ مُعامَلَةَ فَرائِضِ اللَّيْلِ: فَشَرَعَ فِيها الجَهْرَ. ومِن جِهَةِ الوَصايا بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها، هي أجْدَرُ الصَّلَواتِ بِذَلِكَ: لِأنَّها الصَّلاةُ الَّتِي تَكْثُرُ المُثَبِّطاتُ عَنْها، بِاخْتِلافِ الأقالِيمِ والعُصُورِ والأُمَمِ، بِخِلافِ غَيْرِها فَقَدْ تَشُقُّ إحْدى الصَّلَواتِ الأُخْرى عَلى طائِفَةٍ دُونَ أُخْرى، بِحَسَبِ الأحْوالِ والأقالِيمِ والفُصُولِ. (ص-٤٦٩)ومِنَ النّاسِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الصَّلاةَ الوُسْطى قُصِدَ إخْفاؤُها لِيُحافِظَ النّاسُ عَلى جَمِيعِ الصَّلَواتِ، وهَذا قَوْلٌ باطِلٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى عَرَّفَها بِاللّامِ ووَصَفَها. فَكَيْفَ يَكُونُ مَجْمُوعُ هَذَيْنِ المُعَرَّفَيْنِ غَيْرَ مَفْهُومٍ، وأمّا قِياسُ ذَلِكَ عَلى ساعَةِ الجُمُعَةِ ولَيْلَةِ القَدْرِ فَفاسِدٌ، لِأنَّ كِلَيْهِما قَدْ ذُكِرَ بِطَرِيقِ الإبْهامِ وصَحَّتِ الآثارُ بِأنَّها غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ. هَذا خُلاصَةُ ما يُعْرَضُ هُنا مِن تَفْسِيرِ الآيَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ أمْرٌ بِالقِيامِ في الصَّلاةِ بِخُضُوعٍ، فالقِيامُ: الوُقُوفُ، وهو رُكْنٌ في الصَّلاةِ فَلا يُتْرَكُ إلّا لِعُذْرٍ، وأمّا القُنُوتُ: فَهو الخُضُوعُ والخُشُوعُ قالَ تَعالى: ﴿وكانَتْ مِنَ القانِتِينَ﴾ [التحريم: ١٢] وقالَ ﴿إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل: ١٢٠] وسُمِّيَ بِهِ الدُّعاءُ المَخْصُوصُ الَّذِي يُدْعى بِهِ في صَلاةِ الصُّبْحِ أوْ في صَلاةِ المَغْرِبِ، عَلى خِلافٍ بَيْنَهم، وهو هُنا مَحْمُولٌ عَلى الخُضُوعِ والخُشُوعِ، وفي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «كُنّا نُسَلِّمُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ وهو يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنا، فَلَمّا رَجَعْنا مِن عِنْدِ النَّجاشِيِّ سَلَّمْنا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنا، وقالَ: إنَّ في الصَّلاةِ لَشُغْلًا» «وعَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ: كانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ الرَّجُلَ إلى جَنْبِهِ، في الصَّلاةِ، حَتّى نَزَلَتْ ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ فَأُمِرْنا بِالسُّكُوتِ» . فَلَيْسَ قانِتِينَ هُنا بِمَعْنى قارِئِينَ دُعاءَ القُنُوتِ، لِأنَّ ذَلِكَ الدُّعاءَ إنَّما سُمِّيَ قُنُوتًا اسْتِرْواحًا مِن هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الوُسْطى بِصَلاةِ الصُّبْحِ كَما في حَدِيثِ أنَسٍ «دَعا النَّبِيءُ عَلى رِعْلٍ وذَكْوانَ في صَلاةِ الغَداةِ شَهْرًا وذَلِكَ بَدْءُ القُنُوتِ وما كُنّا نَقْنُتُ» .