undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
﴿وما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ﴾ كَرَّرَ تَشْبِيهَ المُشْرِكِينَ في إعْراضِهِمْ عَنِ الحَقِّ بِأنْ شُبِّهُوا في ذَلِكَ بِالعُمْيِ بَعْدَ أنْ شُبِّهُوا بِالمَوْتى وبِالصُّمِّ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ إطْنابًا في تَشْنِيعِ حالِهِمُ المَوْصُوفَةِ عَلى ما هو المَعْرُوفُ عِنْدَ البُلَغاءِ في تَكْرِيرِ التَّشْبِيهِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وحَسَّنَ هَذا التَّكْرِيرَ هُنا ما بَيْنَ التَّشْبِيهَيْنِ مِنَ الفُرُوقِ مَعَ اتِّحادِ الغايَةِ؛ فَإنَّهم شُبِّهُوا بِالمَوْتى في انْتِفاءِ إدْراكِ المَعانِي الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ العُقَلاءُ، وبِالصُّمِّ في انْتِفاءِ إدْراكِ بَلاغَةِ الكَلامِ الَّذِي يَضْطَلِعُ بِهِ بُلَغاءُ العَرَبِ. وشُبِّهُوا ثالِثًا بِالعُمْيِ في انْتِفاءِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ طَرِيقِ الهُدى وطَرِيقِ الضَّلالِ مِن حَيْثُ إنَّهم لَمْ يَتَّبِعُوا هَدْيَ دِينِ الإسْلامِ. والغايَةُ واحِدَةٌ وهي انْتِفاءُ اتِّباعِهِمُ الإسْلامَ فَفي تَشْبِيهِهِمْ بِالعُمْيِ اسْتِعارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، ونَفْيُ إنْقاذِهِمْ عَنْ ضَلالَتِهِمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعارَةِ؛ لِأنَّ الأعْمى لا يَبْلُغُ إلى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ بِوَصْفِ الواصِفِ. والهُدى: الدَّلالَةُ عَلى طَرِيقِ السّائِرِ بِأنْ يَصِفَهُ لَهُ فَيَقُولُ مَثَلًا: إذا بَلَغْتَ الوادِيَ فَخُذِ الطَّرِيقَ الأيْمَنَ. والَّذِي يَسْلُكُ بِالقَوافِلِ مَسالِكَ الطَّرِيقِ يُسَمّى هادِيًا. والتَّوَصُّلُ إلى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ يُسَمّى اهْتِداءً. وهَذا التَّرْشِيحُ هو أيْضًا مُسْتَعارٌ لِبَيانِ الحَقِّ والصَّوابِ لِلنّاسِ، والأعْمى غَيْرُ قابِلٍ لِلْهِدايَةِ بِالحالَتَيْنِ حالَةِ الوَصْفِ وهي ظاهِرَةٌ، وحالَةِ الِاقْتِيادِ فَإنَّ العَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُوا العُمْيَ مَعَهم في أسْفارِهِمْ؛ لِأنَّهم يُعَرْقِلُونَ عَلى القافِلَةِ سَيْرَها. (ص-٣٧)وقَوْلُهُ ﴿عَنْ ضَلالَتِهِمْ﴾ يَتَضَمَّنُ اسْتِعارَةً مَكْنِيَّةً قَرِينَتُها حالِيَّةٌ. شَبَّهَ الدِّينَ الحَقَّ بِالطَّرِيقِ الواضِحَةِ، وإسْنادُ الضَّلالَةِ إلى سالِكِيهِ تَرْشِيحٌ لَها وتَخْيِيلٌ، والضَّلالَةُ أيْضًا مُسْتَعارَةٌ لِعَدَمِ إدْراكِ الحَقِّ تَبَعًا لِلِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ، وأُطْلِقَتْ هُنا عَلى عَدَمِ الِاهْتِداءِ لِلطَّرِيقِ، وضَمِيرُ ضَلالَتِهِمْ عائِدٌ إلى العُمْيِ، ولِتَأتِّي هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ الرَّشِيقَةِ عُدِلَ عَنْ تَعْلِيقِ ما حَقُّهُ أنْ يُعَلَّقَ بِالهَدْيِ فَعُلِّقَ بِهِ ما يَقْتَضِيهِ نَفْيُ الهَدْيِ مِنَ الصَّرْفِ والمُباعَدَةِ. فَقِيلَ ﴿عَنْ ضَلالَتِهِمْ﴾ بِتَضْمِينِ ”هادِي“ مَعْنى صارِفٍ. فَصارَ: ما أنْتَ بِهادِي، بِمَعْنى: ما أنْتَ بِصارِفِهِمْ عَنْ ضَلالَتِهِمْ كَما يُقالُ: سَقاهُ عَنِ العَيْمَةِ، أيْ سَقاهُ صارِفًا لَهُ عَنِ العَيْمَةِ، وهي شَهْوَةُ اللَّبَنِ. وعُدِلَ في الجُمْلَةِ عَنْ صِيغَتَيِ النَّفْيَيْنِ السّابِقَيْنِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾ [النمل: ٨٠] الواقِعَيْنِ عَلى مُسْنَدَيْنِ فِعْلِيَّيْنِ، إلى تَسْلِيطِ النَّفْيِ هُنا عَلى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِلدَّلالَةِ عَلى ثَباتِ النَّفْيِ. وأُكِّدَ ذَلِكَ الثَّباتُ بِالباءِ المَزِيدَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. ووَجْهُ إيثارِ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِهَذَيْنِ التَّحْقِيقَيْنِ هو أنَّهُ لَمّا أفْضى الكَلامُ إلى نَفْيِ اهْتِدائِهِمْ وكانَ اهْتِداؤُهم غايَةَ مَطْمَحِ الرَّسُولِ ﷺ كانَ المَقامُ مُشْعِرًا بِبَقِيَّةٍ مِن طَمَعِهِ في اهْتِدائِهِمْ حِرْصًا عَلَيْهِمْ فَأُكِّدَ لَهُ ما يُقْلِعُ طَمَعَهُ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] وقَوْلِهِ ﴿وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ﴾ [ق: ٤٥] . وسَيَجِيءُ في تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مِن سُورَةِ الرُّومِ تَوْجِيهٌ لِتَعْدادِ التَّشابِيهِ الثَّلاثَةِ زائِدًا عَلى ما هُنا فانْظُرْهُ. وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ (وما أنْتَ تَهْدِي) بِمُثَنّاةٍ فَوْقِيَّةٍ في مَوْضِعِ المُوَحَّدَةِ وبِدُونِ ألْفٍ بَعْدِ الهاءِ. * * * ﴿إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهم مُسْلِمُونَ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِتَرَقُّبِ السّامِعِ مَعْرِفَةَ مَن يَهْتَدُونَ بِالقُرْآنِ. والإسْماعُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ المَجازِيِّ كَما تَقَدَّمَ. (ص-٣٨)وأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ في قَوْلِهِ مَن يُؤْمِنُ لِيَشْمَلَ مَن آمَنُوا مِن قَبْلُ فَيُفِيدُ المُضارِعُ اسْتِمْرارَ إيمانِهِمْ ومَن سَيُؤْمِنُونَ. وقَدْ ظَهَرَ مِنَ التَّقْسِيمِ الحاصِلِ مِن قَوْلِهِ ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾ [النمل: ٨٠] إلى هُنا، أنَّ النّاسَ قِسْمانِ مِنهم مَن طَبَعَ اللَّهُ عَلى قَلْبِهِ وعَلِمَ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ حَتّى يُعاجِلَهُ الهَلاكُ ومِنهم مَن كَتَبَ اللَّهُ لَهُ السَّعادَةَ فَيُؤْمِنُ سَرِيعًا أوْ بَطِيئًا قَبْلَ الوَفاةِ. وفُرِّعَ عَلَيْهِ ﴿فَهم مُسْلِمُونَ﴾ المُفِيدُ لِلدَّوامِ والثَّباتِ؛ لِأنَّهم إذا آمَنُوا فَقَدْ صارَ الإسْلامُ راسِخًا فِيهِمْ ومُتَمَكِّنًا مِنهم، وكَذَلِكَ الإيمانُ حِينَ تُخالِطُ بِشاشَتُهُ القُلُوبَ.