undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
(ص-٣٢)﴿إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم بِحُكْمِهِ وهْوَ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ لَمّا سَبَقَ ذِكْرُ المُشْرِكِينَ بِطَعْنِهِمْ في القُرْآنِ وتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ، وذِكْرُ بَنِي إسْرائِيلَ بِما يَقْتَضِي طَعْنَهم فِيهِ بِأنَّهُ لِمُخالَفَةٍ ما في كُتُبِهِمْ، وذِكْرُ المُؤْمِنِينَ بِأنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِهِ وكانَ لَهم رَحْمَةً فَهم مُوقِنُونَ بِما فِيهِ، تَمَخَّضَ الكَلامُ عَنْ خُلاصَةٍ هي افْتِراقُ النّاسِ في القُرْآنِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ طاعِنٍ، وفَرِيقٍ مُوقِنٍ، فَلا جَرَمَ اقْتَضى ذَلِكَ حُدُوثَ تَدافُعٍ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ. وهو مِمّا يُثِيرُ في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ سُؤالًا عَنْ مَدى هَذا التَّدافُعِ، والتَّخالُفِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ ومَتى يَنْكَشِفُ الحَقُّ، فَجاءَ قَوْلُهُ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم بِحُكْمِهِ﴾ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا فَيُعْلَمُ أنَّ القَضاءَ يَقْتَضِي مُخْتَلِفِينَ. وأنَّ كَلِمَةَ ”بَيْنَ“ تَقْتَضِي مُتَعَدِّدًا، فَأفادَ أنَّ اللَّهَ يَقْضِي بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والطّاعِنِينَ فِيهِ قَضاءً يُبَيِّنُ المُحِقَّ مِنَ المُبْطِلِ. وهَذا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ ولِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِبْطائِهِمُ النَّصْرَ فَإنَّ النَّبِيءَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ، وإنَّما تَقَلَّدَ المُؤْمِنُونَ ما أنْبَأهم بِهِ فالقَضاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَضاءٌ لَهُ بادِئَ ذِي بَدْءٍ. وفِيهِ تَوْجِيهُ الخِطابِ إلى جَنابِ الرَّسُولِ ﷺ، وإسْنادُ القَضاءِ إلى اللَّهِ في شَأْنِهِ بِعُنْوانِ أنَّهُ رَبٌّ لَهُ إيماءٌ بِأنَّ القَضاءَ سَيَكُونُ مُرْضِيًا لَهُ ولِلْمُؤْمِنِينَ. فَجُعِلَ الرَّسُولُ في هَذا الكَلامِ بِمَقامِ المُبَلِّغِ وجُعِلَ القَضاءُ بَيْنَ أُمَّتِهِ مُؤْمِنِهِمْ وكافِرِهِمْ، وتَعْجِيلٌ لِمَسَرَّةِ الرَّسُولِ بِهَذا الإيماءِ. وإذْ قَدْ أُسْنِدَ القَضاءُ إلى اللَّهِ وعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ مُضافٌ إلى ضَمِيرِهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ المُتَعَلِّقِ غَيْرَ المُتَعَلَّقِ بِهِ وذَلِكَ يُلْجِئُ: إمّا إلى تَأْوِيلِ مَعْنى إضافَةِ الحُكْمِ بِما يُخالِفُ مَعْنى إسْنادِ القَضاءِ إذا اعْتُبِرَ اللَّفْظانِ مُتَرادِفَيْنِ لَفْظًا ومَعْنًى، فَيَكُونُ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ الإضافَةُ مِنِ اخْتِصاصِ المُضافِ بِالمُضافِ إلَيْهِ مَقْصُودًا بِهِ ما اشْتُهِرَ بِهِ المُضافُ بِاعْتِبارِ المُضافِ إلَيْهِ. وذَلِكَ أنَّ الكُلَّ يَعْلَمُونَ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ هو العَدْلُ ولِأنَّ المُضافَ إلَيْهِ هو الحَكَمُ العَدْلُ. فالمَعْنى عَلى هَذا أنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم بِحُكْمِهِ المَعْرُوفِ المُشْتَهَرِ اللّائِقِ بِعُمُومِ عِلْمِهِ واطِّرادِ عَدْلِهِ، وإمّا أنْ يُؤَوَّلَ الحُكْمُ بِمَعْنى الحِكْمَةِ وهو إطْلاقٌ شائِعٌ قالَ تَعالى ﴿وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩] وقالَ ﴿وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: ١٢] ولَمْ يَكُنْ يَحْيى حاكِمًا وإنَّما كانَ حَكِيمًا نَبِيئًا فَيَكُونُ (ص-٣٣)المَعْنى عَلى هَذا: إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم بِحِكْمَتِهِ، أيْ بِما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، أيْ مِن نَصْرِ المُحِقِّ عَلى المُبْطِلِ. ومَآلُ التَّأْوِيلَيْنِ إلى مَعْنًى واحِدٍ. وبِهِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ الِاسْمَيْنِ الجَلِيلَيْنِ في تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ ﴿وهُوَ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾، فَإنَّ العَزِيزَ لا يُصانِعُ، والعَلِيمَ لا يَفُوتُهُ الحَقُّ، ويَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ التَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ.