undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
﴿أمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرارًا وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا وجَعَلَ لَها رَواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجِزًا أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ (أمْ) لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ مِثْلُ أُخْتِها السّابِقَةِ. وهَذا انْتِقالٌ مِنَ الِاسْتِدْلالِ (ص-١٣)المَشُوبِ بِالِامْتِنانِ إلى الِاسْتِدْلالِ المُجَرَّدِ بِدَلائِلِ قُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ بِأنْ خَلَقَ المَخْلُوقاتِ العَظِيمَةَ وبِتَدْبِيرِهِ نِظامَها حَتّى لا يَطْغى بَعْضُها عَلى بَعْضٍ فَيَخْتَلَّ نِظامُ الجَمِيعِ.
ولِأجْلِ كَوْنِ الغَرَضِ مِن هَذا الِاسْتِدْلالِ إثْباتَ عِظَمِ القُدْرَةِ وحِكْمَةِ الصُّنْعِ لَمْ يَجِئْ خِلالَهُ بِخِطابٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَما جاءَ في قَوْلِهِ في الآيَةِ قَبْلَها وأنْزَلَ لَكم مِنَ السَّماءِ ماءً الآيَةَ، وإنْ كانَ هَذا الصُّنْعُ العَجِيبُ لا يَخْلُو مَن لُطْفٍ بِالمَخْلُوقاتِ أرادَهُ خالِقُها، ولَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالقَصْدِ الأوَّلِ مِن سَوْقِ الدَّلِيلِ هُنا.
والقَرارُ: مَصْدَرُ قَرَّ، إذا ثَبَتَ وسَكَنَ. ووَصَفَ الأرْضَ بِهِ لِلْمُغالَبَةِ، أيْ ذاتُ قَرارٍ. والمَعْنى جَعَلَ الأرْضَ ثابِتَةً قارَّةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ. وهَذا تَدْبِيرٌ عَجِيبٌ ولا يُدْرَكُ تَمامُ هَذا الصُّنْعِ العَجِيبِ إلّا عِنْدَ العِلْمِ بِأنَّ هَذِهِ الأرْضَ سابِحَةٌ في الهَواءِ مُتَحَرِّكَةٌ في كُلِّ لَحْظَةٍ وهي مَعَ ذَلِكَ قارَّةٌ فِيما يَبْدُو لِسُكّانِها فَهَذا تَدْبِيرٌ أعْجَبُ، وفِيهِ مَعَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ ونِعْمَةٌ، ولَوْلا قَرارُها لَكانَ النّاسُ عَلَيْها مُتَزَلْزِلِينَ مُضْطَرِبِينَ ولَكانَتْ أشْغالُهم مُعَنِّتَةً لَهم.
ومَعَ جَعْلِها قَرارًا شَقَّ فِيها الأنْهارَ فَجَعَلَها خِلالَها. وخِلالُ الشَّيْءِ: مُنْفَرَجُ ما بَيْنَ أجْزائِهِ. والأنْهارُ تَشُقُّ الأرْضَ في أخادِيدَ فَتَجْرِي خِلالَها الأرْضُ.
والرَّواسِي: الجِبالُ، جَمْعُ راسٍ وهو الثّابِتُ. واللّامُ في ”لَها“ لامُ العِلَّةِ، أيِ الرَّواسِي لِأجْلِها أيْ لِفائِدَتِها، فَإنَّ في تَكْوِينِ الجِبالِ حِكْمَةً لِدَفْعِ المُلامَسَةِ عَنِ الأرْضِ لِيَكُونَ سَيْرُها في الكُرَةِ الهَوائِيَّةِ مُعَدَّلًا غَيْرَ شَدِيدِ السُّرْعَةِ وبِذَلِكَ دَوامُ سَيْرِها.
وجَعَلَ الحاجِزَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ مِن بَدِيعِ الحِكْمَةِ، وهو حاجِزٌ مَعْنَوِيٌّ حاصِلٌ مَن دَفْعِ كِلا الماءَيْنِ: أحَدِهِما الآخَرَ عَنِ الِاخْتِلاطِ بِهِ، بِسَبَبِ تَفاوُتِ الثِّقْلِ النِّسْبِيِّ لِاخْتِلافِ الأجْزاءِ المُرَكَّبِ مِنها الماءُ المِلْحُ والماءُ العَذْبُ. فالحاجِزُ حاجِزٌ مِن طَبَعِهِما ولَيْسَ جِسْمًا آخَرَ فاصِلًا بَيْنَهُما، وتَقَدَّمَ في صُورَةِ النَّحْلِ.
وهَذا الجَعْلُ كِنايَةٌ عَنْ خَلْقِ البَحْرَيْنِ أيْضًا؛ لِأنَّ الحَجْزَ بَيْنَهُما يَقْتَضِي خَلْقَهُما وخَلْقَ المُلُوحَةِ والعُذُوبَةِ فِيهِما.
ثُمَّ ذَيَّلَ بِالِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ وبِالِاسْتِدْراكِ بِجُمْلَةٍ مُماثِلَةٍ لِما ذُيِّلَ بِهِ الِاسْتِدْلالُ (ص-١٤)الَّذِي قَبْلَها عَلى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ تَعْدِيدًا لِلْإنْكارِ وتَمْهِيدًا لِلتَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ. وأُوثِرَ هُنا نَفْيُ صِفَةِ العِلْمِ عَنْ أكْثَرِ المُشْرِكِينَ لِقِلَّةِ مَن يَنْظُرُ في دَقائِقِ هَذِهِ المَصْنُوعاتِ وخَصائِصِها مِنهم فَإنَّ اعْتِيادَ مُشاهَدَتِها مَن أوَّلِ نَشْأةِ النّاظِرِ يُذْهِلُهُ عَمّا فِيها مِن دَلائِلِ بَدِيعِ الصُّنْعِ. فَأكْثَرُ المُشْرِكِينَ يَجْهَلُ ذَلِكَ ولا يَهْتَدِي بِما فِيهِ، أمّا المُؤْمِنُونَ فَقَدْ نَبَّهَهُمُ القُرْآنُ إلى ذَلِكَ فَهم يَقْرَءُونَ آياتِهِ المُتَكَرِّرِ فِيها الِاسْتِدْلالُ والنَّظَرُ.
وهَذِهِ الدَّلائِلُ لا تَخْلُو عَنْ نِعْمَةٍ مِن ورائِها كَما عَلِمْتَهُ آنِفًا ولَكِنَّها سِيقَتْ هُنا لِإرادَةِ الِاسْتِدْلالِ لا لِلِامْتِنانِ.