You are reading a tafsir for the group of verses 20:62 to 20:64
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
﴿فَتَنازَعُوا أمْرَهم بَيْنَهم وأسَرُّوا النَّجْوى﴾ ﴿قالُوا إنَّ هَذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أنْ يُخْرِجاكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِما ويَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلى﴾ ﴿فَأجْمِعُوا كَيْدَكم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى﴾ . أيْ تَفَرَّعَ عَلى مَوْعِظَةِ مُوسى تَنازُعُهُمُ الأمْرَ بَيْنَهم، وهَذا يُؤْذِنُ بِأنَّ مِنهم مَن تَرَكَتْ فِيهِ المَوْعِظَةُ بَعْضَ الأثَرِ، ومِنهم مَن خَشِيَ الِانْخِذالَ، فَلِذَلِكَ دَعا بَعْضُهم بَعْضًا لِلتَّشاوُرِ في ماذا يَصْنَعُونَ. (ص-٢٥١)والتَّنازُعُ: تَفاعُلٌ مِنَ النَّزْعِ، وهو الجَذْبُ مِنَ البِئْرِ، وجَذْبُ الثَّوْبِ مِنَ الجَسَدِ، وهو مُسْتَعْمَلٌ تَمْثِيلًا في اخْتِلافِ الرَّأْيِ ومُحاوَلَةِ كُلِّ صاحِبِ رَأْيٍ أنْ يُقْنِعَ المُخالِفَ لَهُ بِأنَّ رَأْيَهُ هو الصَّوابُ. فالتَّنازُعُ: التَّخالُفُ. والنَّجْوى: الحَدِيثُ السِّرِّيُّ، أيِ اخْتَلَوْا وتَحادَثُوا سِرًّا لِيَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهم، فَجَعَلَ النَّجْوى مَعْمُولًا لِ أسَرُّوا يُفِيدُ المُبالَغَةَ في الكِتْمانِ، كَأنَّهُ قِيلَ: أسَرُّوا سِرَّهم، كَما يُقالُ: شِعْرُ شاعِرٍ. وزادَهُ مُبالَغَةً قَوْلُهُ (بَيْنَهم) المُقْتَضِي أنَّ النَّجْوى بَيْنَ طائِفَةٍ خاصَّةٍ لا يَشْتَرِكُ مَعَهم فِيها غَيْرُهم. وجُمْلَةُ (﴿قالُوا إنَّ هَذانِ لَساحِرانِ﴾) بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ (﴿وأسَرُّوا النَّجْوى﴾)، لِأنَّ إسْرارَ النَّجْوى يَشْتَمِلُ عَلى أقْوالٍ كَثِيرَةٍ ذُكِرَ مِنها هَذا القَوْلُ، لِأنَّهُ القَوْلُ الفَصْلُ بَيْنَهم والرَّأْيُ الَّذِي أرْسَوْا عَلَيْهِ، فَهو زُبْدَةُ مَخِيضِ النَّجْوى. وذَلِكَ شَأْنُ التَّشاوُرِ وتَنازُعِ الآراءِ أنْ يُسْفِرَ عَنْ رَأْيٍ يَصْدُرُ الجَمِيعُ عَنْهُ. وإسْنادُ القَوْلِ إلى ضَمِيرِ جَمْعِهِمْ عَلى مَعْنى: قالَ بَعْضُهم: هَذانِ لَساحِرانِ، فَقالَ جَمِيعُهم: نَعَمْ هَذانِ لَساحِرانِ، فَأُسْنِدَ هَذا القَوْلُ إلى جَمِيعِهِمْ، أيْ مَقالَةً تَداوَلُوا الخَوْضَ في شَأْنِها فَأرْسَوْا عَلَيْها وقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: نَعَمْ هو كَذَلِكَ، ونَطَقُوا بِالكَلامِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهم، وهو تَحَقُّقُهم أنَّ مُوسى وأخاهُ ساحِرانِ. واعْلَمْ أنَّ جَمِيعَ القُرّاءِ المُعْتَبَرِينَ قَرَءُوا بِإثْباتِ الألِفِ في اسْمِ الإشارَةِ مِن قَوْلِهِ هَذانِ ما عَدا أبا عَمْرٍو مِنَ العَشَرَةِ وما عَدا الحَسَنِ البَصْرِيِّ مِنَ الأرْبَعَةَ عَشَرَ. وذَلِكَ يُوجِبُ اليَقِينَ بِأنَّ إثْباتَ الألِفِ في لَفْظِ (هَذانِ) أكْثَرُ تَواتُرًا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ (إنَّ) (ص-٢٥٢)مُشَدَّدَةً أوْ مُخَفَّفَةً، وأنَّ أكْثَرَ مَشْهُورِ القِراءاتِ المُتَواتِرَةِ قَرَأُوا - بِتَشْدِيدِ نُونِ - (أنَّ) ما عَدا ابْنَ كَثِيرٍ وحَفْصًا عَنْ عاصِمٍ فَهُما قَرَءا (أنْ) بِسُكُونِ النُّونِ عَلى أنَّها مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وإنَّ المُصْحَفَ الإمامَ ما رَسَمُوهُ إلّا اتِّباعًا لِأشْهَرِ القِراءاتِ المَسْمُوعَةِ المَرْوِيَّةِ مِن زَمَنِ النَّبِيءِ ﷺ، وقُرّاءِ أصْحابِهِ، فَإنَّ حِفْظَ القُرْآنِ في صُدُورِ القُرّاءِ أقْدَمُ مِن كِتابَتِهِ في المَصاحِفِ، وما كُتِبَ في أُصُولِ المَصاحِفِ إلّا مِن حِفْظِ الكاتِبِينَ، وما كُتِبَ المُصْحَفُ الإمامُ إلّا مِن مَجْمُوعِ مَحْفُوظِ الحُفّاظِ وما كَتَبَهُ كُتّابُ الوَحْيِ في مُدَّةِ نُزُولِ الوَحْيِ. فَأمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ (﴿إنَّ هَذانِ لَساحِرانِ﴾) بِتَشْدِيدِ نُونِ (إنَّ) وبِالألِفِ في هَذانِ وكَذَلِكَ في (﴿لَساحِرانِ﴾)، فَلِلْمُفَسِّرِينَ في تَوْجِيهِها آراءٌ بَلَغَتِ السِّتَّةَ. وأظْهَرُها أنْ تَكُونَ (إنَّ) حَرْفُ جَوابٍ مِثْلَ: نَعَمْ وأجَلْ، وهو اسْتِعْمالٌ مِنِ اسْتِعْمالاتِ (إنَّ)، أيِ اتَّبَعُوا لَمّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أمْرُهم بَعْدَ النَّجْوى كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيّاتِ: ؎ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلا كَ وقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهُ أيْ أجَلْ أوْ نَعَمْ، والهاءُ في البَيْتِ هاءُ السَّكْتِ، وقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِأعْرابِيٍّ اسْتَجْداهُ فَلَمْ يُعْطِهِ، فَقالَ الأعْرابِيُّ: لَعَنَ اللَّهُ ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ. قالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إنَّ وراكِبَها. وهَذا التَّوْجِيهُ مِن مُبْتَكَراتِ أبِي إسْحاقَ الزَّجّاجِ ذَكَرَهُ في تَفْسِيرِهِ. وقالَ: عَرَضْتُهُ عَلى عالِمَيْنا وشَيْخَيْنا وأُسْتاذَيْنا مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدٍ يَعْنِي المُبَرِّدَ، وإسْماعِيلَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ حَمّادٍ يَعْنِي القاضِيَ الشَّهِيرَ فَقَبِلاهُ وذَكَرا أنَّهُ أجْوَدُ ما سَمِعاهُ في هَذا. وقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقا وحَقَّقا. وما أوْرَدَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّدِّ فِيهِ نَظَرٌ. (ص-٢٥٣)وفِي التَّفْسِيرِ الوَجِيزِ لِلْواحِدِيِّ سَألَ إسْماعِيلُ القاضِي (هو ابْنُ إسْحاقَ بْنِ حَمّادٍ) ابْنَ كَيْسانَ عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ، فَقالَ ابْنُ كَيْسانَ: لَمّا لَمْ يَظْهَرْ في المُبْهَمِ إعْرابٌ في الواحِدِ ولا في الجَمْعِ (أيْ في قَوْلِهِمْ هَذا وهَؤُلاءِ إذْ هُما مَبْنِيّانِ) جَرَتِ التَّثْنِيَةُ مَجْرى الواحِدِ إذِ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أنْ لا تُغَيَّرَ. فَقالَ لَهُ إسْماعِيلُ: ما أحْسَنَ هَذا لَوْ تَقَدَّمَكَ أحَدٌ بِالقَوْلِ فِيهِ حَتّى يُؤْنَسَ بِهِ ؟ فَقالَ لَهُ ابْنُ كَيْسانَ: فَلْيَقُلْ بِهِ القاضِي حَتّى يُؤْنَسَ بِهِ، فَتَبَسَّمَ. وعَلى هَذا التَّوْجِيهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى (﴿إنَّ هَذانِ لَساحِرانِ﴾) حِكايَةً لِمَقالِ فَرِيقٍ مِنَ المُتَنازِعِينَ، وهو الفَرِيقُ الَّذِي قَبِلَ هَذا الرَّأْيَ لِأنَّ حَرْفَ الجَوابِ يَقْتَضِي كَلامًا سَبَقَهُ. ودَخَلَتِ اللّامُ عَلى الخَبَرِ: إمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الخَبَرِ جُمْلَةً حُذِفَ مُبْتَدَأُها وهو مَدْخُولُ اللّامِ في التَّقْدِيرِ، ووُجُودُ اللّامِ يُنْبِئُ بِأنَّ الجُمْلَةَ الَّتِي وقَعَتْ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الإشارَةِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ؛ وإمّا عَلى رَأْيِ مَن يُجِيزُ دُخُولَ اللّامِ عَلى خَبَرِ المُبْتَدَأِ في غَيْرِ الضَّرُورَةِ. ووُجِّهَتْ هَذِهِ القِراءَةُ أيْضًا بِجَعْلِ (إنَّ) حَرْفَ تَوْكِيدٍ، وإعْرابُ اسْمِها المُثَنّى جَرى عَلى لُغَةِ كِنانَةَ وبِلْحارِثِ بْنِ كَعْبٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عَلامَةَ إعْرابِ المُثَنّى الألِفَ في أحْوالِ الإعْرابِ كُلِّها، وهي لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ في الأدَبِ العَرَبِيِّ ولَها شَواهِدُ كَثِيرَةٌ مِنها قَوْلُ المُتَلَمِّسِ: ؎فَأطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولَوْ دَرى ∗∗∗ مَساغًا لِناباهُ الشُّجاعُ لَصَمَّما وقَرَأهُ حَفْصٌ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ نُونِ (إنْ) مُسَكَّنَةً عَلى أنَّها مُخَفَّفَةُ (إنَّ) المُشَدَّدَةِ. ووَجْهُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ اسْمُ (إنِ) المُخَفَّفَةِ ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا عَلى المَشْهُورِ. وتَكُونُ اللّامُ في (﴿لَساحِرانِ﴾) اللّامَ الفارِقَةَ بَيْنَ (إنِ) المُخَفَّفَةِ وبَيْنَ (إنِ) النّافِيَةِ. (ص-٢٥٤)وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِسُكُونِ نُونِ (إنْ) عَلى أنَّها مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وبِإثْباتِ الألِفِ في (هَذانِ) وبِتَشْدِيدِ نُونِ (هاذانِّ) . وأمّا قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو وحْدَهُ (إنَّ هَذَيْنِ) بِتَشْدِيدِ نُونِ (إنَّ) وبِالياءِ بَعْدَ ذالِ (هَذَيْنِ) . فَقالَ القُرْطُبِيُّ: هي مُخالِفَةٌ لِلْمُصْحَفِ. وأقُولُ: ذَلِكَ لا يَطْعَنُ فِيها لِأنَّها رِوايَةٌ صَحِيحَةٌ ووافَقَتْ وجْهًا مَقْبُولًا في العَرَبِيَّةِ. ونُزُولُ القُرْآنِ بِهَذِهِ الوُجُوهِ الفَصِيحَةِ في الِاسْتِعْمالِ ضَرْبٌ مِن ضُرُوبِ إعْجازِهِ لِتَجْرِيَ تَراكِيبُهُ عَلى أفانِينَ مُخْتَلِفَةِ المَعانِي مُتَّحِدَةِ المَقْصُودِ. فَلا التِفاتَ إلى ما رُوِيَ مِنِ ادِّعاءِ أنَّ كِتابَةَ (إنَّ هاذانِ) خَطَأٌ مِن كاتِبِ المُصْحَفِ، ورِوايَتِهِمْ ذَلِكَ عَنْ أبانَ بْنِ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ عَنْ أبِيهِ، وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ، ولَيْسَ في ذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. حَسِبُوا أنَّ المُسْلِمِينَ أخَذُوا قِراءَةَ القُرْآنِ مِنَ المَصاحِفِ وهَذا تَغَفُّلٌ، فَإنَّ المُصْحَفَ ما كُتِبَ إلّا بَعْدَ أنْ قَرَأ المُسْلِمُونَ القُرْآنَ نَيِّفًا وعِشْرِينَ سَنَةً في أقْطارِ الإسْلامِ، وما كُتِبَتِ المَصاحِفُ إلّا مِن حِفْظِ الحُفّاظِ، وما أخَذَ المُسْلِمُونَ القُرْآنَ إلّا مِن أفْواهِ حُفّاظِهِ قَبْلَ أنْ تُكْتَبَ المَصاحِفُ، وبَعْدَ ذَلِكَ إلى اليَوْمِ فَلَوْ كانَ في بَعْضِها خَطَأٌ في الخَطِّ لَما تَبِعَهُ القُرّاءُ، ولَكانَ بِمَنزِلَةِ ما تُرِكَ مِنَ الألِفاتِ في كَلِماتٍ كَثِيرَةٍ وبِمَنزِلَةِ كِتابَةِ ألِفِ الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والحَياةِ، والرِّبا بِالواوِ في مَوْضِعِ الألِفِ وما قَرَءُوها إلّا بِألِفاتِها. وتَأْكِيدُ السَّحَرَةِ كَوْنَ مُوسى وهارُونَ ساحِرَيْنِ بِحَرْفِ (إنَّ) لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ مَن يُخامِرُهُ الشَّكُّ في صِحَّةِ دَعْوَتِهِما، وجَعَلَ ما أظْهَرَهُ مُوسى مِنَ المُعْجِزَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ سِحْرًا لِأنَّهم يُطْلِقُونَ السِّحْرَ عِنْدَهم عَلى خَوارِقِ العاداتِ، كَما «قالَتِ المَرْأةُ الَّتِي (ص-٢٥٥)شاهَدَتْ نَبْعَ الماءِ مِن بَيْنِ أصابِعِ النَّبِيءِ ﷺ لِقَوْمِها: جِئْتُكم مِن عِنْدِ أسْحَرِ النّاسِ»، وهو في كِتابِ المَغازِي مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ. والقائِلُونَ: قَدْ يَكُونُ بَعْضُهم مِمَّنْ شاهَدَ ما أتى بِهِ مُوسى في مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، أوْ مِمَّنْ بَلَغَهم ذَلِكَ بِالتَّسامُعِ والِاسْتِفاضَةِ. والخِطابُ في قَوْلِهِ (﴿أنْ يُخْرِجاكُمْ﴾) لِمَلَئِهِمْ. ووَجْهُ اتِّهامِهِما بِذَلِكَ هو ما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى قالَ (﴿أجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِن أرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى﴾ [طه: ٥٧]) . ونَزِيدُ هُنا أنْ يَكُونَ هَذا مِنَ النَّجْوى بَيْنَ السَّحَرَةِ، أيْ يُرِيدانِ الِاسْتِئْثارَ بِصِناعَةِ السِّحْرِ في أرْضِكم فَتَخْرُجُوا مِنَ الأرْضِ بِإهْمالِ النّاسِ لَكم وإقْبالِهِمْ عَلى سِحْرِ مُوسى وهارُونَ. والطَّرِيقَةُ: السُّنَّةُ والعادَةُ؛ شُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ السّائِرُ، لِجامِعِ المُلازَمَةِ. والمُثْلى: مُؤَنَّثُ الأمْثَلِ. وهو اسْمُ تَفْضِيلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ المَثالَةِ، وهي حُسْنُ الحالَةِ يُقالُ: فُلانٌ أمْثَلُ قَوْمِهِ، أيْ أقْرَبُهم إلى الخَيْرِ وأحْسَنُهم حالًا. وأرادُوا مِن هَذا إثارَةَ حَمِيَّةِ بَعْضِهِمْ غَيْرَةً عَلى عَوائِدِهِمْ، فَإنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ غَيْرَةً عَلى عَوائِدِها وشَرائِعِها وأخْلاقِها. ولِذا فَرَّعُوا عَلى ذَلِكَ أمْرَهم بِأنْ يَجْمَعُوا حِيَلَهم وكُلَّ ما في وُسْعِهِمْ أنْ يَغْلِبُوا بِهِ مُوسى. والباءُ في (﴿بِطَرِيقَتِكُمُ﴾) لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ (يَذْهَبا) . والمَعْنى: يُذْهِبانِها، وهو أبْلَغُ في تَعَلُّقِ الفِعْلِ بِالمَفْعُولِ مِن نَصْبِ المَفْعُولِ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧]) في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (﴿فَأجْمِعُوا﴾) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وكَسْرِ المِيمِ أمْرًا مِن: أجْمَعَ أمْرَهُ، إذا جَعَلَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لا يُخْتَلَفُ فِيهِ. (ص-٢٥٦)وقَرَأ أبُو عَمْرٍو (فاجْمَعُوا) بِهَمْزَةِ وصْلٍ وبِفَتْحِ المِيمِ أمْرًا مِن جَمَعَ، كَقَوْلِهِ فِيما مَضى (﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ [طه: ٦٠]) . أطْلَقَ الجَمْعَ عَلى التَّعاضُدِ والتَّعاوُنِ، تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ المُخْتَلِفِ بِالمُتَفَرِّقِ، وهو مُقابِلُ قَوْلِهِ (﴿فَتَنازَعُوا أمْرَهُمْ﴾) . وسَمَّوْا عَمَلَهم كَيْدًا لِأنَّهم تَواطَئُوا عَلى أنْ يُظْهِرُوا لِلْعامَّةِ أنَّ ما جاءَ بِهِ مُوسى لَيْسَ بِعَجِيبٍ، فَهم يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أوْ أشَدَّ مِنهُ لِيَصْرِفُوا النّاسَ عَنْ سَماعِ دَعْوَتِهِ فَيَكِيدُوا لَهُ بِإبْطالِ خِصِّيصِيَّةِ ما أتى بِهِ. والظّاهِرُ أنَّ عامَّةَ النّاسِ تَسامَعُوا بِدَعْوَةِ مُوسى، وما أظْهَرَهُ اللَّهُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ المُعْجِزَةِ، وأصْبَحُوا مُتَحَيِّرِينَ في شَأْنِهِ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ اهْتَمَّ السَّحَرَةُ بِالكَيْدِ لَهُ، وهو ما حَكاهُ قَوْلُهُ تَعالى في آيَةِ سُورَةِ الشُّعَراءِ (﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ٣٨] ﴿وقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ [الشعراء: ٣٩] ﴿لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إنْ كانُوا هُمُ الغالِبِينَ﴾ [الشعراء: ٤٠]) . ودَبَّرُوا لِإرْهابِ النّاسِ وإرْهابِ مُوسى وهارُونَ بِالِاتِّفاقِ عَلى أنْ يَأْتُوا حِينَ يَتَقَدَّمُونَ لِإلْقاءِ سِحْرِهِمْ مُصْطَفِّينَ لِأنَّ ذَلِكَ أهْيَبُ لَهم. ولَمْ يَزَلِ الَّذِينَ يَرُومُونَ إقْناعَ العُمُومِ بِأنْفُسِهِمْ يَتَخَيَّرُونَ لِذَلِكَ بَهاءَ الهَيْئَةِ وحُسْنَ السَّمْتِ وجَلالَ المَظْهَرِ. فَكانَ مِن ذَلِكَ جُلُوسُ المُلُوكِ عَلى جُلُودِ الأُسُودِ، ورُبَّما لَبِسَ الأبْطالُ جُلُودَ النُّمُورِ في الحَرْبِ. وقَدْ فُسِّرَ بِهِ فِعْلَ (تَنَمَّرُوا) في قَوْلِ ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ: ؎قَوْمٌ إذا لَبِسُوا الحَدِيدَ ∗∗∗ تَنَمَّرُوا حِلَقًا وقَدّا وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ المُرادُ مِن قَوْلِهِمُ الجارِي مَجْرى المَثَلِ (لَبِسَ لِي فُلانٌ جِلْدَ النَّمِرِ)؛ وثَبَتَ في التّارِيخِ المُسْتَنِدِ لِلْآثارِ أنَّ كَهَنَةَ القِبْطِ في مِصْرَ كانُوا يَلْبِسُونَ جُلُودَ النُّمُورِ. (ص-٢٥٧)والصَّفُّ: مَصْدَرُ مَعْنى الفاعِلِ أوِ المَفْعُولِ، أيْ صافِّينَ أوْ مَصْفُوفِينَ، إذا تَرَتَّبُوا واحِدًا حَذْوَ الآخَرِ بِانْتِظامٍ بِحَيْثُ لا يَكُونُونَ مُخْتَلِطِينَ، لِأنَّهم إذا كانُوا الواحِدَ حَذْوَ الآخَرِ وكانَ الصَّفُّ مِنهم تِلْوَ الآخَرِ كانُوا أبْهَرَ مَنظَرًا، قالَ تَعالى (﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف: ٤]) . وكانَ جَمِيعُ سَحَرَةِ البِلادِ المِصْرِيَّةِ قَدْ أُحْضِرُوا بِأمْرِ فِرْعَوْنَ فَكانُوا عَدَدًا كَثِيرًا. فالصَّفُّ هُنا مُرادٌ بِهِ الجِنْسُ لا الوَحْدَةُ، أيْ ثُمَّ ائْتُوا صُفُوفًا، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ [النبإ: ٣٨]) وقالَ (﴿والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢]) . وانْتَصَبَ صَفًّا عَلى الحالِ مِن فاعِلِ (ائْتُوا) . والمَقْصُودُ الإتْيانُ إلى مَوْضِعِ إلْقاءِ سِحْرِهِمْ وشَعْوَذَتِهِمْ، لِأنَّ التَّناجِيَ والتَّآمُرَ كانَ في ذَلِكَ اليَوْمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ (﴿وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى﴾) . وجُمْلَةُ (﴿وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى﴾) تَذْيِيلٌ لِلْكَلامِ يَجْمَعُ ما قَصَدُوهُ مِن تَآمُرِهِمْ بِأنَّ الفَلاحَ يَكُونُ لِمَن غَلَبَ وظَهَرَ في ذَلِكَ الجَمْعِ. فَـ (اسْتَعْلى) مُبالَغَةٌ في عَلا، أيْ عَلا صاحِبَهُ وقَهَرَهُ. فالسِّينُ والتّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَأْخَرَ. وأرادُوا الفَلاحَ في الدُّنْيا لِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِأنَّ أمْثالَ هَذِهِ المَواقِفِ مِمّا يُؤَثِّرُ في حالِ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ وإنْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِالحَياةِ الثّانِيَةِ.