You are reading a tafsir for the group of verses 20:123 to 20:127
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ؛ لِأنَّ الإخْبارَ عَنْ آدَمَ بِالعِصْيانِ والغِوايَةِ يُثِيرُ في نَفْسِ السّامِعِ سُؤالًا عَنْ جَزاءِ ذَلِكَ. وضَمِيرُ ”قالَ“ عائِدٌ إلى ”رَبِّهِ“ مِن قَوْلِهِ: ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ﴾ [طه: ١٢١] . والخِطابُ لِآدَمَ وإبْلِيسَ. والأمْرُ في ”اهْبِطا“ أمْرُ تَكْوِينٍ؛ لِأنَّهُما عاجِزانِ عَنِ الهُبُوطِ إلى الأرْضِ بِتَكْوِينٍ مِنَ اللَّهِ؛ إذْ كانَ قَرارُهُما في عالَمِ الجَنَّةِ بِتَكْوِينِهِ تَعالى. و”جَمِيعًا“ يَظْهَرُ أنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنى كُلِّ أفْرادِ ما يُوصَفُ بِجَمِيعٍ، وكَأنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلى التَّعَدُّدِ مِثْلَ: فَرِيقٍ؛ ولِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ وغَيْرُهُ والواحِدُ وغَيْرُهُ، قالَ تَعالى: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ [هود: ٥٥] . ونَصْبُهُ عَلى الحالِ. وهو هُنا حالٌ مِن ضَمِيرِ ”اهْبِطا“ . وجُمْلَةُ ﴿بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ حالٌ ثانِيَةٌ مِن ضَمِيرِ ”اهْبِطا“ . فالمَأْمُورُ بِالهُبُوطِ مِنَ الجَنَّةِ آدَمُ وإبْلِيسُ، وأمّا حَوّاءُ فَتَبَعٌ لِزَوْجِها. والخِطابُ في قَوْلِهِ: ”بَعْضُكم“ خُطّابٌ لِآدَمَ وإبْلِيسَ. وخُوطِبا بِضَمِيرِ الجَمْعِ لِأنَّهُ أُرِيدَ عَداوَةُ نَسْلَيْهِما، فَإنَّهُما أصْلانِ لِنَوْعَيْنِ نَوْعِ الإنْسانِ ونَوْعِ الشَّيْطانِ. * * * (ص-٣٢٩)﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ تَفْرِيعُ جُمْلَةِ ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾ عَلى الأمْرِ بِالهُبُوطِ مِنَ الجَنَّةِ إلى الدُّنْيا إنْباءٌ بِأنَّهم يَسْتَقْبِلُونَ في هَذِهِ الدُّنْيا سِيرَةً غَيْرَ الَّتِي كانُوا عَلَيْها في الجَنَّةِ؛ لِأنَّهم أُودِعُوا في عالَمٍ خَلِيطٍ خَيْرُهُ بِشَرِّهِ، وحَقائِقُهُ بِأوْهامِهِ، بَعْدَ أنْ كانُوا في عالَمِ الحَقائِقِ المَحْضَةِ والخَيْرِ الخالِصِ، وفي هَذا إنْباءٌ بِطَوْرٍ طَرَأ عَلى أصْلِ الإنْسانِ في جِبِلَّتِهِ كانَ مُعَدًّا لَهُ مِن أصْلِ تَرْكِيبِهِ. والخِطابُ في قَوْلِهِ: ”يَأْتِيَنَّكم“ لِآدَمَ بِاعْتِبارِ أنَّهُ أصْلٌ لِنَوْعِ الإنْسانِ إشْعارًا لَهُ بِأنَّهُ سَيَكُونُ مِنهُ جَماعَةٌ، ولا يَشْمَلُ هَذا الخِطابُ إبْلِيسَ؛ لِأنَّهُ مَفْطُورٌ عَلى الشَّرِّ والضَّلالِ، إذْ قَدْ أنْبَأهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ إبايَتِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ، فَلا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ بِاتِّباعِ الهُدى؛ لِأنَّ طَلَبَ الِاهْتِداءِ مِمَّنْ أعْلَمَهُ اللَّهُ بِأنَّهُ لا يَزالُ في ضَلالٍ يُعَدُّ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ فِعْلُ الحَكِيمِ تَعالى. ولَيْسَ هَذا مِثْلَ أمْرِ أبِي جَهْلٍ وأضْرابِهِ بِالإسْلامِ؛ إذْ أمْثالُ أبِي جَهْلٍ لا يُوقَنُ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، ولَمْ يَرِدْ في السُّنَّةِ (ص-٣٣٠)أنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَعا الشَّيْطانَ لِلْإسْلامِ ولا دَعا الشَّياطِينَ. وأمّا الحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ: أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ: «ما مِنكم مِن أحَدٍ إلّا وقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ، قالُوا: وإيّاكَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: وإيّايَ، ولَكِنَّ اللَّهَ أعانَنِي فَأسْلَمَ» . فَلا يَقْتَضِي أنَّهُ دَعاهُ لِلْإسْلامِ ولَكِنَّ اللَّهَ ألْهَمَ قَرِينَهُ إلى أنْ يَأْمُرَهُ بِالخَيْرِ، والمُرادُ بِالقَرِينِ: شَيْطانٌ قَرِينٌ، والمُرادُ بِالهُدى: الإرْشادُ إلى الخَيْرِ. وفِي هَذِهِ الآيَةِ وِصايَةُ اللَّهِ آدَمَ وذُرِّيَّتَهُ بِاتِّباعِ رُسُلِ اللَّهِ والوَحْيِ الإلَهِيِّ. وبِذَلِكَ يُعْلَمُ أنَّ طَلَبَ الهُدى مَرْكُوزٌ في الجِبِلَّةِ البَشَرِيَّةِ حَتّى قالَ كَثِيرٌ مِن عُلَماءِ الإسْلامِ: إنَّ مَعْرِفَةَ الإلَهِ الواحِدِ كائِنَةٌ في العُقُولِ أوْ شائِعَةٌ في الأجْيالِ والعُصُورِ، وإنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يُعْذَرْ أهْلُ الشِّرْكِ في مُدَدِ الفِتَرِ الَّتِي لَمْ تَجِئْ فِيها رُسُلٌ لِلْأُمَمِ. وهَذِهِ مَسْألَةٌ عَظِيمَةٌ وقَدِ اسْتَوْعَبَها عُلَماءُ الكَلامِ، وحَرَّرْناها في رِسالَةِ ”النَّسَبِ النَّبَوِيِّ“ . وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ الجُمْلَتَيْنِ الأوَّلَيْنَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وأمّا قَوْلُهُ: ”﴿فَلا يَضِلُّ﴾“ فَمَعْناهُ: أنَّهُ إذا اتَّبَعَ الهُدى الوارِدَ مِنَ اللَّهِ عَلى لِسانِ رُسُلِهِ سَلِمَ مِن أنْ يَعْتَرِيَهُ شَيْءٌ مِن ضَلالٍ، وهَذا مَأْخُوذٌ مِن دَلالَةِ الفِعْلِ في حَيِّزِ النَّفْيِ عَلى العُمُومِ كَعُمُومِ النَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ، أيْ فَلا يَعْتَرِيَهُ ضَلالٌ في الدُّنْيا، بِخِلافِ مَنِ اتَّبَعَ ما فِيهِ هُدًى وارِدٌ مِن غَيْرِ اللَّهِ، فَإنَّهُ وإنِ اسْتَفادَ هُدًى في بَعْضِ الأحْوالِ لا يَسْلَمُ مِنَ الوُقُوعِ في الضَّلالِ في أحْوالٍ أُخْرى. وهَذا حالُ مُتَّبِعِي الشَّرائِعِ غَيْرِ الإلَهِيَّةِ وهي الشَّرائِعُ الوَضْعِيَّةُ، فَإنَّ واضِعِيها وإنْ أفْرَغُوا جُهُودَهم في تَطَلُّبِ الحَقِّ لا يَسْلَمُونَ مِنَ الوُقُوعِ في ضَلالاتٍ بِسَبَبِ غَفَلاتٍ، أوْ تَعارُضِ أدِلَّةٍ، أوِ انْفِعالٍ بِعاداتٍ مُسْتَقِرَّةٍ، أوْ مُصانَعَةٍ لِرُؤَساءٍ أوْ أُمَمٍ رَأوْا أنَّ مِنَ المَصْلَحَةِ طَلَبَ مَرْضاتِهِمْ. وهَذا سُقْراطُ وهو سَيِّدُ حُكَماءِ اليُونانِ قَدْ كانَ يَتَذَرَّعُ لِإلْقاءِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ في أثِينا بِأنْ يُفْرِغَهُ في قَوالِبِ حِكاياتٍ عَلى ألْسِنَةِ الحَيَوانِ، ولَمْ يَسْلَمْ مِنَ الخُنُوعِ لِمُصانَعَةِ اللَّفِيفِ، فَإنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ لا يَرى تَأْلِيهَ آلِهَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِن (ص-٣٣١)أنْ يَأْمُرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقُرْبانِ دِيكٍ لِعُطارِدٍ رَبِّ الحِكْمَةِ. وحالُهم بِخِلافِ حالِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَتَلَقُّونَ الوَحْيَ مِن عَلّامِ الغُيُوبِ الَّذِي لا يَضِلُّ ولا يَنْسى. وأيَّدَهُمُ اللَّهُ، وعَصَمَهم مِن مُصانَعَةِ أهْلِ الأهْواءِ، وكَوَّنَهم تَكْوِينًا خاصًّا مُناسِبًا لِما سَبَقَ في عِلْمِهِ مِن مُرادِهِ مِنهم، وثَبَّتَ قُلُوبَهم عَلى تَحَمُّلِ اللَّأْواءِ، ولا يَخافُونَ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وإنَّ الَّذِي يَنْظُرُ في القَوانِينِ الوَضْعِيَّةِ نَظْرَةَ حَكِيمٍ يَجِدُها مُشْتَمِلَةً عَلى مُراعاةِ أوْهامٍ وعاداتٍ. والشَّقاءُ المَنفِيُّ في قَوْلِهِ: ”﴿ولا يَشْقى﴾“ هو شَقاءُ الآخِرَةِ؛ لِأنَّهُ إذا سَلِمَ مِنَ الضَّلالِ في الدُّنْيا سَلِمَ مِنَ الشَّقاءِ في الآخِرَةِ. ويَدُلُ لِهَذا مُقابَلَةُ ضِدِّهِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾، إذْ رَتَّبَ عَلى الإعْراضِ عَنْ هَدْيِ اللَّهِ اخْتِلالَ حالِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فالمَعِيشَةُ مُرادٌ بِها مُدَّةُ المَعِيشَةِ، أيْ مُدَّةُ الحَياةِ. والضَّنْكُ: مَصْدَرُ ضَنُكَ - مِن بابِ كَرُمَ - ضَناكَةً وضَنْكًا، ولِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُهُ بِاخْتِلافِ مَوْصُوفِهِ، فَوَصَفَ بِهِ هُنا ”مَعِيشَةً“ وهي مُؤَنَّثٌ. والضَّنْكُ: الضِّيقُ، يُقالُ: مَكانٌ ضَنْكٌ، أيْ ضَيِّقٌ. ويُسْتَعْمَلُ مَجازًا في عُسْرِ الأُمُورِ في الحَياةِ، قالَ عَنْتَرَةُ: ؎إنْ يَلْحَقُوا أكْرُرْ وإنْ يَسْتَلْحِمُوا أشْدُدْ وإنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ أنْزِلِ أيْ بِمَنزِلٍ ضَنْكٍ، أيْ فِيهِ عُسْرٌ عَلى نازِلِهِ. وهو هُنا بِمَعْنى عُسْرِ الحالِ مِنَ اضْطِرابِ البالِ وتَبَلْبُلِهِ. والمَعْنى: أنَّ مَجامِعَ هَمِّهِ ومَطامِحَ نَظَرِهِ تَكُونُ إلى التَّحَيُّلِ في إيجادِ الأسْبابِ والوَسائِلِ لِمَطالِبِهِ، فَهو مُتَهالِكٌ عَلى الِازْدِيادِ، خائِفٌ عَلى الِانْتِقاصِ، غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إلى الكِمالاتِ، ولا مَأْنُوسٌ بِما يَسْعى إلَيْهِ مِنَ الفَضائِلِ، يَجْعَلُهُ اللَّهُ في تِلْكَ الحالَةِ وهو لا يَشْعُرُ، وبَعْضُهم يَبْدُو لِلنّاسِ في حالَةٍ حَسَنَةٍ ورَفاهِيَةِ عَيْشٍ ولَكِنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مُطَمَئِنَّةٍ. (ص-٣٣٢)وجَعَلَ اللَّهُ عِقابَهُ يَوْمَ الحَشْرِ أنْ يَكُونَ أعْمى؛ تَمْثِيلًا لِحالَتِهِ الحِسِّيَّةِ يَوْمَئِذٍ بِحالَتِهِ المَعْنَوِيَّةِ في الدُّنْيا، وهي حالَةُ عَدَمِ النَّظَرِ في وسائِلَ الهُدى والنَّجاةِ. وذَلِكَ المَعْنى عُنْوانٌ عَلى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ وإقْصائِهِ عَنْ رَحْمَتِهِ؛ فَـ ”أعْمى“ الأوَّلُ مُجازُ، ”وأعْمى“ الثّانِي حَقِيقَةٌ. وجُمْلَةُ ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أعْمى﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا، وجُمْلَةُ قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ إلَخْ. . . واقِعَةٌ في طَرِيقِ المُحاوَرَةِ؛ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ ولَمْ تُعْطَفْ. وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ أبْلَغَ الإنْسانَ مِن يَوْمِ نَشْأتِهِ التَّحْذِيرَ مِنَ الضَّلالِ والشِّرْكِ، فَكانَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا في الفِطْرَةِ حَتّى قالَ كَثِيرٌ مِن عُلَماءِ الإسْلامِ: بِأنَّ الإشْراكَ بِاللَّهِ مِنَ الأُمَمِ الَّتِي تَكُونُ في الفَتْرَةِ بَيْنَ الشَّرائِعِ مُسْتَحِقٌّ صاحِبُهُ العِقابَ، وقالَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزِلَةِ قاطِبَةً: إنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ واجِبَةٌ بِالعَقْلِ. ولا شَكَّ أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِها في القُرْآنِ تَنْبِيهُ المُخاطَبِينَ بِالقُرْآنِ إلى الحَذَرِ مِنَ الإعْراضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وإنْذارٌ لَهم بِعاقِبَةٍ مِثْلِ حالِهِمْ. والإشارَةُ في ﴿كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا﴾ راجِعَةٌ إلى العَمى المُضَمَّنِ في قَوْلِهِ: ﴿لِمَ حَشَرْتَنِيَ أعْمى﴾، أيْ مِثْلُ ذَلِكَ الحالِ الَّتِي تَساءَلْتَ عَنْ سَبَبِها كُنْتَ نَسِيتَ آياتِنا حِينَ أتَتْكَ، وكُنْتَ تُعْرِضُ عَنِ النَّظَرِ في الآياتِ حِينَ تُدْعى إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الحالُ كانَ عِقابُكَ عَلَيْهِ جَزاءً وِفاقًا. وقَدْ ظَهَرَ مِن نَظْمِ الآيَةِ أنَّ فِيها ثَلاثَةُ احْتِباكاتٍ، وأنَّ تَقْدِيرَ الأوَّلِ: ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى ونَنْساهُ، أيْ نُقْصِيهِ مِن رَحْمَتِنا. وتَقْدِيرُ الثّانِي والثّالِثِ: قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وعَمِيتَ عَنْها، فَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى وتُحْشَرُ أعْمى. (ص-٣٣٣)والنِّسْيانُ في المَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ كِنايَةً أوِ اسْتِعارَةً في الحِرْمانِ مِن حُظُوظِ الرَّحْمَةِ. وجُمْلَةُ ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ﴾ إلَخْ. . . تَذْيِيلٌ، يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن حِكايَةِ ما يُخاطِبُ اللَّهُ بِهِ مَن يُحْشَرُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى، قُصِدَ مِنها التَّوْبِيخُ لَهُ والتَّنْكِيلُ، فالواوُ عاطِفَةٌ الجُمْلَةَ عَلى الَّتِي قَبْلِها. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْقِصَّةِ ولَيْسَتْ مِنَ الخِطابِ المُخاطَبِ بِهِ مَن يُحْشَرُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى، قُصِدَ مِنها مَوْعِظَةُ السّامِعِينَ لِيَحْذَرُوا مِن أنْ يَصِيرُوا إلى مَثَلِ ذَلِكَ المَصِيرِ، فالواوُ اعْتِراضِيَّةٌ؛ لِأنَّ التَّذْيِيلَ اعْتِراضٌ في آخِرِ الكَلامِ، والواوُ الِاعْتِراضِيَّةُ راجِعَةٌ إلى الواوِ العاطِفَةِ، إلّا أنَّها عاطِفَةٌ مَجْمُوعَ كَلامٍ عَلى مَجْمُوعِ كَلامٍ آخَرَ لا عَلى بَعْضِ الكَلامِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ. والمَعْنى: ومِثْلَ ذَلِكَ الجَزاءِ نَجْزِي مَن أسْرَفَ، أيْ كَفَرَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ. فالإسْرافُ: الِاعْتِقادُ الضّالُّ وعَدَمُ الإيمانِ بِالآياتِ ومُكابَرَتُها وتَكْذِيبُها. والمُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ”وكَذَلِكَ“ هو مَضْمُونُ قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾، أيْ وكَذَلِكَ نَجْزِي في الدُّنْيا الَّذِينَ أسْرَفُوا ولَمْ يُؤْمِنُوا بِالآياتِ. وأعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾، وهَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْقِصَّةِ ولَيْسَ مِن حِكايَةِ خِطابِ اللَّهِ لِلَّذِي حَشَرَهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى. فالمُرادُ بِعَذابِ الآخِرَةِ مُقابِلُ عَذابِ الدُّنْيا المُفادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ الآيَةَ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مِن حِكايَةِ خِطابِ اللَّهِ لِلَّذِي يَحْشُرُهُ أعْمى، فالمُرادُ بِعَذابِ الآخِرَةِ العَذابُ الَّذِي وقَعَ فِيهِ المُخاطَبُ، أيْ أشَدُّ مِن عَذابِ الدُّنْيا وأبْقى مِنهُ؛ لِأنَّهُ أطْوَلُ مُدَّةً.