undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
3
(ص-١٩٢)﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بَدَلٌ أوْ عَطْفُ بَيانٍ مِنَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وإنَّما جاءَ نَظْمُ الآيَةِ بِأُسْلُوبِ الإبْدالِ أوِ البَيانِ دُونَ أنْ يُقالَ: اهْدِنا صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ المُسْتَقِيمَ، لِفائِدَتَيْنِ: الأُولى: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الطَّلَبِ ابْتِداءً هو كَوْنُ المُهْدى إلَيْهِ وسِيلَةً لِلنَّجاةِ واضِحَةً سَمْحَةً سَهْلَةً، وأمّا كَوْنُها سَبِيلَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأمْرٌ زائِدٌ لِبَيانِ فَضْلِهِ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ ما في أُسْلُوبِ الإبْدالِ مِنَ الإجْمالِ المُعَقَّبِ بِالتَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنَ مَعْنى الصِّراطِ لِلْمَطْلُوبِ فَضْلُ تَمَكُّنٍ في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لُقِّنُوا هَذا الدُّعاءَ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الفائِدَةِ مِثْلُ ما لِلتَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ، وأيْضًا لِما في هَذا الأُسْلُوبِ مِن تَقْرِيرِ حَقِيقَةِ هَذا الصِّراطِ وتَحْقِيقِ مَفْهُومِهِ في نُفُوسِهِمْ فَيَحْصُلُ مَفْهُومُهُ مَرَّتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الفائِدَةِ ما يَحْصُلُ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ واعْتِبارِ البَدَلِيَّةِ مُساوٍ لِاعْتِبارِهِ عَطْفَ بَيانٍ لا مَزِيَّةَ لِأحَدِهِما عَلى الآخَرِ خِلافًا لِمَن حاوَلَ التَّفاضُلَ بَيْنَهُما، إذِ التَّحْقِيقُ عِنْدِي أنَّ عَطْفَ البَيانِ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ البَدَلِ وهو البَدَلُ المُطابِقُ وهو الَّذِي لَمْ يُفْصِحْ أحَدٌ مِنَ النُّحاةِ عَلى تَفْرِقَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ بَيْنَهُما ولا شاهِدًا يُعَيِّنُ المَصِيرَ إلى أحَدِهِما دُونَ الآخَرِ. قالَ في الكَشّافِ: فَإنْ قُلْتَ ما فائِدَةُ البَدَلِ ؟ قُلْتُ: فائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ لِما فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ والتَّكْرِيرِ اهـ فَأفْهَمَ كَلامُهُ أنَّ فائِدَةَ الإبْدالِ أمْرانِ يَرْجِعانِ إلى التَّوْكِيدِ وهُما ما فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ أيْ تَكْرارِ لَفْظِ البَدَلِ ولَفْظِ المُبْدَلِ مِنهُ وعَنى بِالتَّكْرِيرِ ما يُفِيدُهُ البَدَلُ عِنْدَ النُّحاةِ مِن تَكْرِيرِ العامِلِ، وهو الَّذِي مَهَّدَ لَهُ في صَدْرِ كَلامِهِ بِقَوْلِهِ: وهو في حُكْمِ تَكْرِيرِ العامِلِ كَأنَّهُ قِيلَ: اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ اهْدِنا صِراطَ الَّذِينَ، وسَمّاهُ تَكْرِيرًا لِأنَّهُ إعادَةٌ لِلَّفْظِ بِعَيْنِهِ، بِخِلافِ إعادَةِ لَفْظِ المُبْدَلِ مِنهُ فَإنَّهُ إعادَةٌ لَهُ بِما يَتَّحِدُ مَعَ ما صَدَقَهُ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالتَّكْرِيرِ وبِالتَّثْنِيَةِ، ومُرادُهُ أنَّ مِثْلَ هَذا البَدَلِ وهو الَّذِي فِيهِ إعادَةُ لَفْظِ المُبْدَلِ مِنهُ يُفِيدُ فائِدَةَ البَدَلِ وفائِدَةَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الجَمْعَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ لا يَتَأتّى عَلى وجْهٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ البُلَغاءِ إلّا بِهَذا الصَّوْغِ البَدِيعِ. وإنَّ إعادَةَ الِاسْمِ في البَدَلِ أوِ البَيانِ لِيُبْنى عَلَيْهِ ما يُرادُ تَعَلُّقُهُ بِالِاسْمِ الأوَّلِ أُسْلُوبٌ بَهِيجٌ مِنَ الكَلامِ البَلِيغِ لِإشْعارِ إعادَةِ اللَّفْظِ بِأنَّ مَدْلُولَهُ بِمَحَلِّ العِنايَةِ وأنَّهُ حَبِيبٌ إلى النَّفْسِ، ومِثْلُهُ تَكْرِيرُ الفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفرقان: ٧٢] وقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ [القصص: ٦٣] فَإنَّ إعادَةَ فِعْلِ (مَرُّوا) وفِعْلِ (أغْوَيْناهم) وتَعْلِيقِ المُتَعَلِّقِ بِالفِعْلِ المُعادِ دُونَ الفِعْلِ الأوَّلِ تَجِدُ لَهُ مِنَ الرَّوْعَةِ والبَهْجَةِ ما لا تَجِدُهُ لِتَعْلِيقِهِ بِالفِعْلِ الأوَّلِ (ص-١٩٣)دُونَ إعادَةٍ، ولَيْسَتِ الإعادَةُ في مِثْلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِأنَّهُ قَدْ زِيدَ عَلَيْهِ ما تَعَلَّقَ بِهِ. قالَ ابْنُ جِنِّي في شَرْحِ مُشْكِلِ الحَماسَةِ عِنْدَ قَوْلِ الأحْوَصِ: ؎فَإذا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشى بَوادِرُهُ عَلى الأقْرانِ مُحالٌ أنْ تَقُولَ إذا قُمْتُ قُمْتُ وإذا أقْعُدُ أقْعُدُ لِأنَّهُ لَيْسَ في الثّانِي غَيْرُ ما في الأوَّلِ وإنَّما جازَ أنْ يَقُولَ فَإذا تَزُولُ تَزُولُ لِما اتَّصَلَ بِالفِعْلِ الثّانِي مِن حَرْفِ الجَرِّ المُفادَةُ مِنهُ الفائِدَةُ، ومِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى ﴿هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ [القصص: ٦٣] وقَدْ كانَ أبُو عَلِيٍّ يَعْنِي الفارِسِيَّ امْتَنَعَ في هَذِهِ الآيَةِ مِمّا أخَذْناهُ اهـ. قُلْتُ: ولَمْ يَتَّضِحْ تَوْجِيهُ امْتِناعِ أبِي عَلِيٍّ فَلَعَلَّهُ امْتَنَعَ مِنَ اعْتِبارِ أغْوَيْناهم بَدَلًا مِن أغْوَيْنا وجَعَلَهُ اسْتِئْنافًا وإنْ كانَ المَآلُ واحِدًا. وفي اسْتِحْضارِ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ المَوْصُولِ، وإسْنادِ فِعْلِ الإنْعامِ عَلَيْهِمْ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ، تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِمْ خِلافًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ. ثُمَّ إنَّ في اخْتِيارِ وصْفِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ بِأنَّهُ صِراطُ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ أوْصافِهِ تَمْهِيدًا لِبِساطِ الإجابَةِ فَإنَّ الكَرِيمَ إذا قُلْتَ لَهُ أعْطِنِي كَما أعْطَيْتَ فُلانًا كانَ ذَلِكَ أنْشَطَ لِكَرَمِهِ، كَما قَرَّرَهُ الشَّيْخُ الجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ في قَوْلِهِ ﷺ كَما صَلَّيْتَ عَلى إبْراهِيمَ، فَيَقُولُ السّائِلُونَ: اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ الصِّراطَ الَّذِي هَدَيْتَ إلَيْهِ عَبِيدَ نِعَمِكَ مَعَ ما في ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِطَلَبِ أنْ يَكُونُوا لاحِقِينَ في مَرْتَبَةِ الهُدى بِأُولَئِكَ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وتَهَمُّمًا بِالِاقْتِداءِ بِهِمْ في الأخْذِ بِالأسْبابِ الَّتِي ارْتَقَوْا بِها إلى تِلْكَ الدَّرَجاتِ، قالَ تَعالى ﴿لَقَدْ كانَ لَكم فِيهِمُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الممتحنة: ٦]، وتَوْطِئَةً لِما سَيَأْتِي بَعْدُ مِنَ التَّبْرِيءِ مِن أحْوالِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَفاؤُلًا وتَعَوُّذًا. والنِّعْمَةُ بِالكَسْرِ وبِالفَتْحِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّعِيمِ وهو راحَةُ العَيْشِ ومُلائِمُ الإنْسانِ والتَّرَفُّهِ، والفِعْلُ كَسَمِعَ ونَصَرَ وضَرَبَ. والنِّعْمَةُ الحالَةُ الحَسَنَةُ لِأنَّ بِناءَ الفِعْلَةِ بِالكَسْرِ لِلْهَيْئاتِ ومُتَعَلِّقَ النِّعْمَةِ اللَّذّاتُ الحِسِّيَّةُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ في اللَّذّاتِ المَعْنَوِيَّةِ العائِدَةِ بِالنَّفْعِ ولَوْ لَمْ يُحِسَّ بِها صاحِبُها. فالمُرادُ مِنَ النِّعْمَةِ في قَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ النِّعْمَةُ الَّتِي لَمْ يَشُبْها ما يُكَدِّرُها ولا تَكُونُ عاقِبَتُها سُوأى، فَهي شامِلَةٌ لِخَيْراتِ الدُّنْيا الخالِصَةِ مِنَ العَواقِبِ السَّيِّئَةِ ولِخَيْراتِ الآخِرَةِ، وهي الأهَمُّ، فَيَشْمَلُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ المَوْهُوبِيَّ مِنها والكَسْبِيَّ، والرُّوحانِيَّ والجُثْمانِيَّ، ويَشْمَلُ النِّعَمَ الأُخْرَوِيَّةَ. (ص-١٩٤)والنِّعْمَةُ بِهَذا المَعْنى يَرْجِعُ مُعْظَمُها إلى الهِدايَةِ، فَإنَّ الهِدايَةَ إلى الكَسْبِيِّ مِنَ الدُّنْيَوِيِّ وإلى الأُخْرَوِيِّ كُلِّهِ ظاهِرَةٌ فِيها حَقِيقَةُ الهِدايَةِ، ولِأنَّ المَوْهُوبَ في الدُّنْيا وإنْ كانَ حاصِلًا بِلا كَسْبٍ إلّا أنَّ الهِدايَةَ تَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ اسْتِعْمالِهِ فِيما وُهِبَ لِأجْلِهِ. فالمُرادُ مِنَ المُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُفِيضَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ الكامِلَةُ. ولا تَخْفى تَمامُ المُناسَبَةِ بَيْنَ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وبَيْنَ المَهْدِيِّينَ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ في إبْدالِ صِراطِ الَّذِينَ مِنَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ مَعْنًى بَدِيعٌ وهو أنَّ الهِدايَةَ نِعْمَةٌ وأنَّ المُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ الكامِلَةِ قَدْ هُدُوا إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ. والَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هم خِيارُ الأُمَمِ السّابِقَةِ مِنَ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ الَّذِينَ حَصَلَتْ لَهُمُ النِّعْمَةُ الكامِلَةُ. وإنَّما يَلْتَئِمُ كَوْنُ المَسْئُولِ طَرِيقَ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فِيما مَضى وكَوْنُهُ هو دِينَ الإسْلامِ الَّذِي جاءَ مِن بَعْدُ بِاعْتِبارِ أنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ جارٍ عَلى سَنَنِ الشَّرائِعِ الحَقَّةِ في أُصُولِ الدِّيانَةِ وفُرُوعِ الهِدايَةِ والتَّقْوى، فَسَألُوا دِينًا قَوِيمًا يَكُونُ في اسْتِقامَتِهِ كَصِراطِ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَأُجِيبُوا بِدِينِ الإسْلامِ، وقَدْ جَمَعَ اسْتِقامَةَ الأدْيانِ الماضِيَةِ وزادَ عَلَيْها. أوِ المُرادُ مِنَ المُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الأنْبِياءُ والرُّسُلُ فَإنَّهم كانُوا عَلى حالَةٍ أكْمَلَ مِمّا كانَ عَلَيْهِ أُمَمُهم، ولِذَلِكَ وصَفَ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الرُّسُلِ الماضِينَ بِوَصْفِ الإسْلامِ، وقَدْ قالَ يَعْقُوبُ لِأبْنائِهِ ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى رَفِقَ بِالأُمَمِ فَلَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ غايَةَ المُرادِ مِنَ النّاسِ لِعَدَمِ تَأهُّلِهِمْ لِلِاضْطِلاعِ بِذَلِكَ ولَكِنَّهُ أمَرَ المُرْسَلِينَ بِأكْمَلِ الحالاتِ وهي مُرادُهُ تَعالى مِنَ الخَلْقِ في الغايَةِ، ولْنُمَثِّلْ لِذَلِكَ بِشُرْبِ الخَمْرِ فَقَدْ كانَ القَدْرُ غَيْرُ المُسْكِرِ مِنهُ مُباحًا وإنَّما يَحْرُمُ السُّكْرُ أوْ لا يَحْرُمُ أصْلًا غَيْرَ أنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يَكُونُوا يَتَعاطَوْنَ القَلِيلَ مِنَ المُسْكِراتِ وهو المِقْدارُ الَّذِي هَدى اللَّهُ إلَيْهِ هَذِهِ الأُمَّةَ كُلَّها، فَسَواءٌ فَسَّرْنا المُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالأنْبِياءِ أوْ بِأفْضَلِ أتْباعِهِمْ أوْ بِالمُسْلِمِينَ السّابِقِينَ فالمَقْصِدُ الهِدايَةُ إلى صِراطٍ كامِلٍ، ويَكُونُ هَذا الدُّعاءُ مَحْمُولًا في كُلِّ زَمانٍ عَلى ما يُناسِبُ طُرُقَ الهِدايَةِ الَّتِي سَبَقَتْ زَمانَهُ والَّتِي لَمْ يَبْلُغْ إلى نِهايَتِها. والقَوْلُ في المَطْلُوبِ مِنِ (اهْدِنا) عَلى هَذِهِ التَّقادِيرِ كُلِّها كالقَوْلِ فِيما تَقَدَّمَ مِن كَوْنِ اهْدِنا لِطَلَبِ الحُصُولِ أوِ الزِّيادَةِ أوِ الدَّوامِ. والدُّعاءُ مَبْنِيٌّ عَلى عَدَمِ الِاعْتِدادِ بِالنِّعْمَةِ غَيْرِ الخالِصَةِ، فَإنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ كُلِّهِمْ كَثِيرَةٌ والكافِرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ بِما لا يُمْتَرى في ذَلِكَ، ولَكِنَّها نِعَمٌ تَحُفُّها آلامُ الفِكْرَةِ في سُوءِ العاقِبَةِ، ويَعْقُبُها عَذابُ الآخِرَةِ. فالخِلافُ المَفْرُوضُ بَيْنَ بَعْضِ العُلَماءِ في أنَّ الكافِرَ هَلْ هو مُنْعَمٌ عَلَيْهِ خِلافٌ لا طائِلَ تَحْتَهُ فَلا فائِدَةَ في التَّطْوِيلِ بِظَواهِرِ أدِلَّةِ الفَرِيقَيْنِ. * * * (ص-١٩٥)﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ كَلِمَةُ ”غَيْرِ“ مَجْرُورَةٌ بِاتِّفاقِ القُرّاءِ العَشَرَةِ وهي صِفَةٌ لِلَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. أوْ بَدَلٌ مِنهُ والوَصْفُ والبَدَلِيَّةُ سَواءٌ في المَقْصُودِ، وإنَّما قَدَّمَ في الكَشّافِ بَيانَ وجْهِ البَدَلِيَّةِ لِاخْتِصارِ الكَلامِ عَلَيْها لِيُفْضِيَ إلى الكَلامِ عَلى الوَصْفِيَّةِ، فَيُورِدُ عَلَيْها كَيْفِيَّةَ صِحَّةِ تَوْصِيفِ المَعْرِفَةِ بِكَلِمَةِ (غَيْرِ) الَّتِي لا تُتَعَرَّفُ، وإلّا فَإنَّ جَعْلَ ”غَيْرِ المَغْضُوبِ“ صِفَةً ”لِلَّذِينَ“ هو الوَجْهُ، وكَذَلِكَ أعْرَبَهُ سِيبَوَيْهِ فِيما نَقَلَ عَنْهُ أبُو حَيّانَ ووَجَّهَهُ بِأنَّ البَدَلَ بِالوَصْفِ ضَعِيفٌ إذِ الشَّأْنُ أنَّ البَدَلَ هو عَيْنُ المُبْدَلِ مِنهُ أيِ اسْمُ ذاتٍ لَهُ، يُرِيدُ أنَّ مَعْنى التَّوْصِيفِ في غَيْرِ أغْلَبُ مِن مَعْنى ذاتٍ أُخْرى لَيْسَتِ السّابِقَةَ، وهو وُقُوفٌ عِنْدَ حُدُودِ العِباراتِ الِاصْطِلاحِيَّةِ حَتّى احْتاجَ صاحِبُ الكَشّافِ إلى تَأْوِيلِ غَيْرِ المَغْضُوبِ بِالَّذِينَ سَلِمُوا مِنَ الغَضَبِ، وأنا لا أظُنُّ الزَّمَخْشَرِيَّ أرادَ تَأْوِيلَ غَيْرِ بَلْ أرادَ بَيانَ المَعْنى. وإنَّما صَحَّ وُقُوعُ (غَيْرِ) صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ (غَيْرَ) لِتَوَغُّلِها في الإبْهامِ لا تُفِيدُها الإضافَةُ تَعْرِيفًا أيْ فَلا يَكُونُ في الوَصْفِ بِها فائِدَةُ التَّمْيِيزِ فَلا تُوصَفُ بِها المَعْرِفَةُ لِأنَّ الصِّفَةَ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ أشْهَرَ مِنَ المَوْصُوفِ، فَـ (غَيْرِ) وإنْ كانَتْ مُضافَةً لِلْمَعْرِفَةِ إلّا أنَّها لِما تَضَمَّنَهُ مَعْناها مِنَ الإبْهامِ انْعَدَمَتْ مَعَها فائِدَةُ التَّعْرِيفِ، إذْ كُلُّ شَيْءٍ سِوى المُضافِ إلَيْهِ هو غَيْرُ، فَماذا يُسْتَفادُ مِنَ الوَصْفِ في قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ غَيْرِ عَمْرٍو. فالتَّوْصِيفُ هُنا إمّا بِاعْتِبارِ كَوْنِ (﴿الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾) لَيْسَ مُرادًا بِهِ فَرِيقٌ مُعَيَّنٌ فَكانَ وِزانُ تَعْرِيفِهِ بِالصِّلَةِ وِزانَ المُعَرَّفِ بِألِ الجِنْسِيَّةِ المُسَمّاةِ عِنْدَ عُلَماءِ المَعانِي بِلامِ العَهْدِ الذِّهْنِيِّ، فَكانَ في المَعْنى كالنَّكِرَةِ وإنْ كانَ لَفْظُهُ لَفْظَ المَعْرِفَةِ فَلِذَلِكَ عُرِفَ بِمِثْلِهِ لَفْظًا ومَعْنًى، وهو غَيْرُ المَغْضُوبِ الَّذِي هو في صُورَةِ المَعْرِفَةِ لِإضافَتِهِ لِمَعْرِفَةٍ وهو في المَعْنى كالنَّكِرَةِ لِعَدَمِ إرادَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وإمّا بِاعْتِبارِ تَعْرِيفِ (غَيْرِ) في مِثْلِ هَذا لِأنَّ (غَيْرَ) إذا أُرِيدَ بِها نَفْيُ ضِدِّ المَوْصُوفِ أيْ مُساوِي نَقِيضِهِ صارَتْ مُعَرَّفَةً، لِأنَّ الشَّيْءَ يَتَعَرَّفُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ نَحْوُ عَلَيْكَ بِالحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ، فَلَمّا كانَ مَن أُنْعِمَ عَلَيْهِ لا يُعاقَبُ كانَ المُعاقَبُ هو المَغْضُوبَ عَلَيْهِ، هَكَذا نَقَلَ ابْنُ هِشامٍ عَنِ ابْنِ السَّرّاجِ والسِّيرافِيِّ وهو الَّذِي اخْتارَهُ ابْنُ الحاجِبِ في أمالِيهِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ [النساء: ٩٥] ونَقَلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أنَّ (غَيْرِ) إنَّما لَمْ تَتَعَرَّفْ لِأنَّها بِمَعْنى المُغايِرِ فَهي كاسْمِ الفاعِلِ وألْحَقَ بِها مِثْلًا وسِوى وحَسْبَ وقالَ إنَّها تَتَعَرَّفُ إذا قُصِدَ بِإضافَتِها الثُّبُوتُ. وكَأنَّ مَآلَ المَذْهَبَيْنِ واحِدٌ لِأنَّ (غَيْرَ) إذا أُضِيفَتْ (ص-١٩٦)إلى ضِدِّ مَوْصُوفِها وهو ضِدٌّ واحِدٌ أيْ: إلى مُساوِي نَقِيضِهِ تَعَيَّنَتْ لَهُ الغَيْرِيَّةُ، فَصارَتْ صِفَةً ثابِتَةً لَهُ غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ، إذْ غَيْرِيَّةُ الشَّيْءِ لِنَقِيضِهِ ثابِتَةٌ لَهُ أبَدًا فَقَوْلُكَ: عَلَيْكَ بِالحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ هو غَيْرُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ غَيْرِ عَمْرٍو وقَوْلُهُ (﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾) مِنَ النَّوْعِ الأوَّلِ. ومِن غَرَضِ وصْفِ (﴿الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾) بِأنَّهم غَيْرُ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ التَّعَوُّذُ مِمّا عَرَضَ لِأُمَمٍ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالهِدايَةِ إلى صِراطِ الخَيْرِ بِحَسَبِ زَمانِهِمْ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إلى الحَقِّ فَتَقَلَّدُوها ثُمَّ طَرَأ عَلَيْهِمْ سُوءُ الفَهْمِ فِيها فَغَيَّرُوها وما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها،، والتَّبَرُّؤُ مِن أنْ يَكُونُوا مِثْلَهم في بَطَرِ النِّعْمَةِ، وسُوءِ الِامْتِثالِ، وفَسادِ التَّأْوِيلِ، وتَغْلِيبِ الشَّهَواتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلى إقامَةِ الدِّينِ حَتّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ تَعالى، وكَذا التَّبَرُّؤُ مِن حالِ الَّذِينَ هُدُوا إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَما صَرَفُوا عِنايَتَهم لِلْحِفاظِ عَلى السَّيْرِ فِيهِ بِاسْتِقامَةٍ، فَأصْبَحُوا مِنَ الضّالِّينَ بَعْدَ الهِدايَةِ إذْ أساءُوا صِفَةَ العِلْمِ بِالنِّعْمَةِ فانْقَلَبَتْ هِدايَتُهم ضَلالًا، والظّاهِرُ أنَّهم لَمْ يَحِقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ قَبْلَ الإسْلامِ لِأنَّهم ضَلُّوا عَنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَلَمْ يَسْبِقْ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا، واليَهُودُ مِن جُمْلَةِ الفَرِيقِ الأوَّلِ، والنَّصارى مِن جُمْلَةِ الفَرِيقِ الثّانِي كَما يُعْلَمُ مِنَ الِاطِّلاعِ عَلى تارِيخِ ظُهُورِ الدِّينَيْنِ فِيهِمْ. ولَيْسَ يَلْزَمُ اخْتِصاصُ أوَّلِ الوَصْفَيْنِ بِاليَهُودِ والثّانِي بِالنَّصارى فَإنَّ في الأُمَمِ أمْثالَهم، وهَذا الوَجْهُ في التَّفْسِيرِ هو الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَهُ مَقامُ الدُّعاءِ بِالهِدايَةِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، ولَوْ كانَ المُرادُ دِينَ اليَهُودِيَّةِ ودِينَ النَّصْرانِيَّةِ لَكانَ الدُّعاءُ تَحْصِيلًا لِلْحاصِلِ فَإنَّ الإسْلامَ جاءَ ناسِخًا لَهُما. ويَشْمَلُ المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ والضّالُّونَ فِرَقَ الكُفْرِ والفُسُوقِ والعِصْيانِ، فالمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ واسْتَخَفَّتْ بِالدِّيانَةِ عَنْ عَمْدٍ أوْ عَنْ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا، والضّالُّونَ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي أخْطَأتِ الدِّينَ عَنْ سُوءِ فَهْمٍ وقِلَّةِ إصْغاءٍ؛ وكِلا الفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ لِأنَّنا مَأْمُورُونَ بِاتِّباعِ سَبِيلِ الحَقِّ وصَرْفِ الجُهْدِ إلى إصابَتِهِ، واليَهُودُ مِنَ الفَرِيقِ الأوَّلِ والنَّصارى مِنَ الفَرِيقِ الثّانِي. وما ورَدَ في الأثَرِ مِمّا ظاهِرُهُ تَفْسِيرُ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِاليَهُودِ والضّالِّينَ بِالنَّصارى فَهو إشارَةٌ إلى أنَّ في الآيَةِ تَعْرِيضًا بِهَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ حَقَّ عَلَيْهِما هَذانِ الوَصْفانِ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما صارَ عَلَمًا فِيما أُرِيدَ التَّعْرِيضُ بِهِ فِيهِ. وقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِن هَذا أنَّ عَطْفَ ولا الضّالِّينَ عَلى غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ ارْتِقاءٌ في التَّعَوُّذِ مِن شَرِّ سُوءِ العاقِبَةِ لِأنَّ التَّعَوُّذَ مِنَ الضَّلالِ الَّذِي جَلَبَ لِأصْحابِهِ غَضَبَ اللَّهِ لا يُغْنِي عَنِ التَّعَوُّذِ مِنَ الضَّلالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِأصْحابِهِ تِلْكَ الدَّرَكاتِ، وذَلِكَ وجْهُ تَقْدِيمِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلى ولا الضّالِّينَ، لِأنَّ الدُّعاءَ كانَ بِسُؤالِ النَّفْيِ، فالتَّدَرُّجُ فِيهِ يَحْصُلُ (ص-١٩٧)بِنَفْيِ الأضْعَفِ بَعْدَ نَفْيِ الأقْوى، مَعَ رِعايَةِ الفَواصِلِ. والغَضَبُ المُتَعَلِّقُ بِالمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هو غَضَبُ اللَّهِ، وحَقِيقَةُ الغَضَبِ المَعْرُوفِ في النّاسِ أنَّهُ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ يَتْبَعُها حَرَكَةُ الرُّوحِ إلى الخارِجِ وثَوَرانُها فَتَطْلُبُ الِانْتِقامَ، فالكَيْفِيَّةُ سَبَبٌ لِطَلَبِ الِانْتِقامِ وطَلَبُ الِانْتِقامِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الِانْتِقامِ. والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ إرادَةَ الِانْتِقامِ لَيْسَتْ مِن لَوازِمِ ماهِيَّةِ الغَضَبِ بِحَيْثُ لا تَنْفَكُّ عَنْهُ، ولَكِنَّها قَدْ تَكُونُ مِن آثارِهِ، وأنَّ الغَضَبَ هو كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ تَعْرِضُ مِن حُصُولِ ما لا يُلائِمُها فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَراهِيَةُ الفِعْلِ المَغْضُوبِ مِنهُ وكَراهِيَةُ فاعِلِهِ، ويُلازِمُهُ الإعْراضُ عَنِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِ ومُعامَلَتُهُ بِالعُنْفِ وبِقَطْعِ الإحْسانِ وبِالأذى وقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلى طَلَبِ الِانْتِقامِ مِنهُ فَيَخْتَلِفُ الحَدُّ الَّذِي يَثُورُ عِنْدَ الغَضَبِ في النَّفْسِ بِاخْتِلافِ مَراتِبِ احْتِمالِ النُّفُوسِ لِلْمُنافَراتِ واخْتِلافِ العاداتِ في اعْتِبارِ أسْبابِهِ. فَلَعَلَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إرادَةَ الِانْتِقامِ لازِمَةً لِلْغَضَبِ بَنَوْا عَلى القَوانِينِ العَرَبِيَّةِ. وإذْ كانَتْ حَقِيقَةُ الغَضَبِ يَسْتَحِيلُ اتِّصافُ اللَّهِ تَعالى بِها وإسْنادُها إلَيْهِ عَلى الحَقِيقَةِ لِلْأدِلَّةِ القَطْعِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى عَنِ التَّغَيُّراتِ الذّاتِيَّةِ والعَرَضِيَّةِ، فَقَدْ وجَبَ عَلى المُؤْمِنِ صَرْفُ إسْنادِ الغَضَبِ إلى اللَّهِ عَنْ مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ، وطَرِيقَةُ أهْلِ العِلْمِ والنَّظَرِ في هَذا الصَّرْفِ أنْ يُصْرَفَ اللَّفْظُ إلى المَجازِ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ أوْ إلى الكِنايَةِ بِاللَّفْظِ عَنْ لازِمِ مَعْناهُ فالَّذِي يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ مِن مَعْنى الغَضَبِ هو لازِمُهُ، أعْنِي العِقابَ والإهانَةَ يَوْمَ الجَزاءِ واللَّعْنَةَ أيِ الإبْعادَ عَنْ أهْلِ الدِّينِ والصَّلاحِ في الدُّنْيا أوْ هو مِن قَبِيلِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وكانَ السَّلَفُ في القَرْنِ الأوَّلِ ومُنْتَصَفِ القَرْنِ الثّانِي يُمْسِكُونَ عَنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ المُتَشابِهاتِ لِما رَأوْا في ذَلِكَ الإمْساكِ مِن مَصْلَحَةِ الِاشْتِغالِ بِإقامَةِ الأعْمالِ الَّتِي هي مُرادُ الشَّرْعِ مِنَ النّاسِ فَلَمّا نَشَأ النَّظَرُ في العِلْمِ وطَلَبِ مَعْرِفَةِ حَقائِقِ الأشْياءِ، وحَدَثَ قَوْلُ النّاسِ في مَعانِي الدِّينِ بِما لا يُلائِمُ الحَقَّ، لَمْ يَجِدْ أهْلُ العِلْمِ بُدًّا مِن تَوْسِيعِ أسالِيبِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ لِإفْهامِ المُسْلِمِ وكَبْتِ المُلْحِدِ، فَقامَ الدِّينُ بِصَنِيعِهِمْ عَلى قَواعِدِهِ. وتَمَيَّزَ المُخْلِصُ لَهُ عَنْ ماكِرِهِ وجاحِدِهِ. وكُلٌّ فِيما صَنَعُوا عَلى هُدًى. وبَعْدَ البَيانِ لا يُرْجَعُ إلى الإجْمالِ أبَدًا. وما تَأوَّلُوهُ إلّا بِما هو مَعْرُوفٌ في لِسانِ العَرَبِ مَفْهُومٌ لِأهْلِهِ. فَغَضَبُ اللَّهِ تَعالى عَلى العُمُومِ يَرْجِعُ إلى مُعامَلَتِهِ الحائِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ العاصِينَ لِأوامِرِهِ ويَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِقامُ وهو مَراتِبٌ أقْصاها عِقابُ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ بِالخُلُودِ في الدَّرْكِ (ص-١٩٨)الأسْفَلِ مِنَ النّارِ، ودُونَ الغَضَبِ الكَراهِيَةُ فَقَدْ ورَدَ في الحَدِيثِ «ويَكْرَهُ لَكم قِيلَ وقالَ وكَثْرَةَ السُّؤالِ»، ويُقابِلُهُما الرِّضى والمَحَبَّةُ وكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ المَشِيئَةِ والإرادَةِ، بِمَعْنى التَّقْدِيرِ والتَّكْوِينِ، فَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ ﴿وإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧] ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢] ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهم جَمِيعًا﴾ [يونس: ٩٩] وتَفْصِيلُ هَذِهِ الجُمْلَةِ في عِلْمِ الكَلامِ. واعْلَمْ أنَّ الغَضَبَ عِنْدَ حُكَماءِ الأخْلاقِ مَبْدَأٌ مِن مَجْمُوعِ الأخْلاقِ الثَّلاثَةِ الأصْلِيَّةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْ جَمِيعِها بِالعَدالَةِ وهي: الحِكْمَةُ والعِفَّةُ والشَّجاعَةُ، فالغَضَبُ مَبْدَأُ الشَّجاعَةِ إلّا أنَّ الغَضَبَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَبْدَأٍ نَفْسانِيٍّ لِأخْلاقٍ كَثِيرَةٍ مُتَطَرِّفَةٍ ومُعْتَدِلَةٍ فَيُلَقِّبُونَ بِالقُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ ما في الإنْسانِ مِن صِفاتِ السَّبُعِيَّةِ وهي حُبُّ الغَلَبَةِ، ومِن فَوائِدِها دَفْعُ ما يَضُرُّهُ ولَها حَدُّ اعْتِدالٍ وحَدُّ انْحِرافٍ فاعْتِدالُها الشَّجاعَةُ وكِبَرُ الهِمَّةِ، وثَباتُ القَلْبِ في المَخاوِفِ، وانْحِرافُها إمّا بِالزِّيادَةِ فَهي التَّهَوُّرُ وشِدَّةُ الغَضَبِ مِن شَيْءٍ قَلِيلٍ والكِبْرُ والعُجْبُ والشَّراسَةُ والحِقْدُ والحَسَدُ والقَساوَةُ، أوْ بِالنُّقْصانِ فالجُبْنُ وخَوْرُ النَّفْسِ وصِغَرُ الهِمَّةِ فَإذا أُطْلِقَ الغَضَبُ لُغَةً انْصَرَفَ إلى بَعْضِ انْحِرافِ الغَضَبِيَّةِ، ولِذَلِكَ كانَ مِن جَوامِعِ كَلِمِ النَّبِيءِ ﷺ «أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ أوْصِنِي قالَ: لا تَغْضَبْ فَكَرَّرَ مِرارًا فَقالَ: لا تَغْضَبْ» رَواهُ التِّرْمِذِيُّ. وسُئِلَ بَعْضُ مُلُوكِ الفُرْسِ: بِمَ دامَ مُلْكُكم ؟ فَقالَ: لِأنّا نُعاقِبُ عَلى قَدْرِ الذَّنْبِ لا عَلى قَدْرِ الغَضَبِ. فالغَضَبُ المَنهِيُّ عَنْهُ هو الغَضَبُ لِلنَّفْسِ لِأنَّهُ يَصْدُرُ عَنْهُ الظُّلْمُ والعُدْوانُ، ومِنَ الغَضَبِ مَحْمُودٌ وهو الغَضَبُ لِحِمايَةِ المَصالِحِ العامَّةِ وخُصُوصًا الدِّينِيَّةِ وقَدْ ورَدَ أنَّ النَّبِيءَ كانَ لا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ فَإذا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِن حُرُماتِ اللَّهِ غَضِبَ لِلَّهِ. وقَوْلُهُ (( ﴿ولا الضّالِّينَ﴾) ) مَعْطُوفٌ عَلى المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ كَما هو مُتَبادِرٌ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ مَكِّيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: إنَّ دُخُولَ لا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عَطْفِ الضّالِّينَ عَلى الَّذِينَ أنْعَمَ عَلَيْهِمْ، وهو تَوْجِيهٌ بَعِيدٌ فالحَقُّ أنَّ (لا) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ المُسْتَفادِ مِن لَفْظِ غَيْرِ عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ في المَعْطُوفِ عَلى ما في حَيِّزِ النَّفْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿أنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِن بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ﴾ [المائدة: ١٩] وهو أُسْلُوبٌ في كَلامِ العَرَبِ. وقالَ السَّيِّدُ في حَواشِي الكَشّافِ لِئَلّا يَتَوَهَّمَ أنَّ المَنفِيَّ هو المَجْمُوعُ فَيُجَوِّزَ ثُبُوتَ أحَدِهِما، ولَمّا كانَتْ غَيْرُ في مَعْنى النَّفْيِ أُجْرِيَتْ إعادَةُ النَّفْيِ في المَعْطُوفِ عَلَيْها، ولَيْسَتْ زِيادَةُ (لا) هُنا كَزِيادَتِها في نَحْوِ ﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] كَما تَوَهَّمَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ؛ لِأنَّ (ص-١٩٩)تِلْكَ الزِّيادَةَ لَفْظِيَّةٌ ومَعْنَوِيَّةٌ لِأنَّ المَعْنى عَلى الإثْباتِ والَّتِي هُنا زِيادَةٌ لَفْظِيَّةٌ فَحَسْبُ والمَعْنى عَلى النَّفْيِ. والضَّلالُ سُلُوكُ غَيْرِ الطَّرِيقِ المُرادِ عَنْ خَطَأٍ سَواءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ فَهو يَتَطَلَّبُ الطَّرِيقَ أمْ لَمْ يَعْلَمْ، ومِنهُ ضالَّةُ الإبِلِ، وهو مُقابِلُ الهُدى وإطْلاقُ الضّالِّ عَلى المُخْطِئِ في الدِّينِ أوِ العِلْمِ اسْتِعارَةٌ كَما هُنا. والضَّلالُ في لِسانِ الشَّرْعِ مُقابِلُ الِاهْتِداءِ والِاهْتِداءُ هو الإيمانُ الكامِلُ والضَّلالُ ما دُونُ ذَلِكَ، قالُوا ولَهُ عَرْضٌ عَرِيضٌ أدْناهُ تَرْكُ السُّنَنِ وأقْصاهُ الكُفْرُ. وقَدْ فَسَّرْنا الهِدايَةَ فِيما تَقَدَّمَ أنَّها الدَّلالَةُ بِلُطْفٍ، فالضَّلالُ عَدَمُ ذَلِكَ، ويُطْلَقُ عَلى أقْصى أنْواعِهِ الخَتْمُ والطَّبْعُ والأكِنَّةُ. والمُرادُ مِنَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ جِنْسا فِرَقِ الكُفْرِ، فالمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ واسْتَخَفَّتْ بِالدِّيانَةِ عَنْ عَمْدٍ وعَنْ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا تُحْمَلُ عَلَيْهِ غَلَبَةُ الهَوى، فَهَؤُلاءِ سَلَكُوا مِنَ الصِّراطِ الَّذِي خُطَّ لَهم مَسالِكَ غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ فاسْتَحَقُّوا الغَضَبَ لِأنَّهم أخْطَئُوا عَنْ غَيْرِ مَعْذِرَةٍ إذْ ما حَمَلَهم عَلى الخَطَأِ إلّا إيثارُ حُظُوظِ الدُّنْيا. والضّالُّونَ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الدِّياناتِ الحَقَّ عَنْ عَمْدٍ وعَنْ سُوءِ فَهْمٍ وكِلا الفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ مُعاقَبٌ لِأنَّ الخَلْقَ مَأْمُورُونَ بِاتِّباعِ سَبِيلِ الحَقِّ وبَذْلِ الجُهْدِ إلى إصابَتِهِ. والحَذَرِ مِن مُخالَفَةِ مَقاصِدِهِ. وإذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وعُلِمَ أنَّ الغَضَبَ عَلَيْهِمْ لِأنَّهم حادُوا عَنِ الصِّراطِ الَّذِي هُدُوا إلَيْهِ فَحَرَمُوا أنْفُسَهم مِنَ الوُصُولِ بِهِ إلى مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، وأنَّ الضّالِّينَ قَدْ ضَلُّوا الصِّراطَ، فَحَصَلَ شِبْهُ الِاحْتِباكِ وهو أنَّ كِلا الفَرِيقَيْنِ نالَ حَظًّا مِنَ الوَصْفَيْنِ إلّا أنَّ تَعْلِيقَ كُلِّ وصْفٍ عَلى الفَرِيقِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ يُرْشِدُ إلى أنَّ المَوْصُوفِينَ بِالضّالِّينَ هم دُونَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ في الضَّلالِ فالمُرادُ المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا شَدِيدًا لِأنَّ ضَلالَهم شَنِيعٌ. فاليَهُودُ مَثَلٌ لِلْفَرِيقِ الأوَّلِ والنَّصارى مِن جُمْلَةِ الفَرِيقِ الثّانِي كَما ورَدَ بِهِ الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ في جامِعِ التِّرْمِذِيِّ وحَسَّنَهُ. وما ورَدَ في الأثَرِ مِن تَفْسِيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِاليَهُودِ والضّالِّينَ بِالنَّصارى، فَهو مِن قَبِيلِ التَّمْثِيلِ بِأشْهَرِ الفِرَقِ الَّتِي حَقَّ عَلَيْها هَذانِ الوَصْفانِ، فَقَدْ كانَ العَرَبُ يَعْرِفُونَ اليَهُودَ في خَيْبَرَ والنَّضِيرِ وبَعْضِ سُكّانِ المَدِينَةِ وفي عَرَبِ اليَمَنِ. وكانُوا يَعْرِفُونَ نَصارى العَرَبِ مِثْلَ تَغْلِبَ وكَلْبٍ وبَعْضِ قُضاعَةَ، وكُلُّ أُولَئِكَ بَدَّلُوا وغَيَّرُوا وتَنَكَّبُوا عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي أرْشَدَهُمُ اللَّهُ إلَيْهِ وتَفَرَّقُوا في بِنْياتِ الطُّرُقِ عَلى تَفاوُتٍ في ذَلِكَ. (ص-٢٠٠)فاليَهُودُ تَمَرَّدُوا عَلى أنْبِيائِهِمْ وأحْبارِهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وبَدَّلُوا الشَّرِيعَةَ عَمْدًا فَلَزِمَهم وصْفُ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وعَلِقَ بِهِمْ في آياتٍ كَثِيرَةٍ. والنَّصارى ضَلُّوا بَعْدَ الحَوارِيِّينَ وأساءُوا فَهْمَ مَعْنى التَّقْدِيسِ في عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَزَعَمُوهُ ابْنَ اللَّهِ عَلى الحَقِيقَةِ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكم غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧] وفي وصْفِ الصِّراطِ المَسْئُولِ في قَوْلِهِ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ﴾ [الفاتحة: ٦] بِالمُسْتَقِيمِ إيماءً إلى أنَّ الإسْلامَ واضِحُ الحُجَّةِ قَوِيمُ المَحَجَّةِ لا يَهْوِي أهْلُهُ إلى هُوَّةِ الضَّلالَةِ كَما قالَ تَعالى﴿قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: ١٦١] وقالَ ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣]، عَلى تَفاوُتٍ في مَراتِبِ إصابَةِ مُرادِ اللَّهِ تَعالى ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيءُ ﷺ «مَنِ اجْتَهَدَ وأصابَ فَلَهُ أجْرانِ ومَنِ اجْتَهَدَ وأخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ واحِدٌ» ولَمْ يَتْرُكْ بَيانُ الشَّرِيعَةِ مَجارِيَ اشْتِباهٍ بَيْنَ الخِلافِ الَّذِي تُحِيطُ بِهِ دائِرَةُ الإسْلامِ والخِلافِ الَّذِي يَخْرُجُ بِصاحِبِهِ عَنْ مُحِيطِ الإسْلامِ قالَ تَعالى ﴿إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩] واخْتَلَفَ القُرّاءُ في حَرَكَةِ هاءِ الضَّمِيرِ مِن قَوْلِهِ (﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾) وقَوْلِهِ ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ وما ضاهاهُما مِن كُلِّ ضَمِيرِ جَمْعٍ وتَثْنِيَةِ مُذَكَّرٍ ومُؤَنَّثٍ لِلْغائِبِ وقَعَ بَعْدَ ياءٍ ساكِنَةٍ، فالجُمْهُورُ قَرَءُوها بِكَسْرِ الهاءِ تَخَلُّصًا مِنَ الثِّقَلِ لِأنَّ الهاءَ حاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ فَإذا ضُمَّتْ بَعْدَ الياءِ فَكانَ ضَمَّتُها قَدْ ولِيَتِ الكَسْرَةَ أوِ الياءَ السّاكِنَةَ وذَلِكَ ثَقِيلٌ وهَذِهِ لُغَةُ قَيْسٍ وتَمِيمٍ وسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وقَرَأ حَمْزَةُ عَلَيْهم وإلَيْهم ولَدَيْهم فَقَطْ بِضَمِّ الهاءِ وما عَداها بِكَسْرِ الهاءِ نَحْوُ إلَيْهِما وصَياصِيهِمْ وهي لُغَةُ قُرَيْشٍ والحِجازِيِّينَ. وقَرَأ يَعْقُوبُ كُلَّ ضَمِيرٍ مِن هَذا القَبِيلِ مِمّا قَبْلَ الهاءِ فِيهِ ياءٌ ساكِنَةٌ بِضَمِّ الهاءِ. وقَدْ ذَكَرْنا هَذا هُنا فَلا نُعِيدُ ذِكْرَهُ في أمْثالِهِ وهو مِمّا يَرْجِعُ إلى قَواعِدِ عِلْمِ القِراءاتِ في هاءِ الضَّمِيرِ. واخْتَلَفُوا أيْضًا في حَرَكَةِ مِيمِ ضَمِيرِ الجَمْعِ الغائِبِ المُذَكَّرِ في الوَصْلِ إذا وقَعَتْ قَبْلَ مُتَحَرِّكٍ فالجُمْهُورُ قَرَءُوا (﴿عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾) بِسُكُونِ المِيمِ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو جَعْفَرٍ وقالُونُ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّةٍ مُشَبَّعَةٍ ”غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمُو“، وهي لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ وعَلَيْها قَوْلُ لَبِيدٍ: ؎وهُمُو فَوارِسُها وهم حُكّامُها فَجاءَ بِاللُّغَتَيْنِ، وقَرَأ ورْشٌ بِضَمِّ المِيمِ وإشْباعِها إذا وقَعَ بَعْدَ المِيمِ هَمْزٌ دُونَ نَحْوِ ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ وأجْمَعَ الكُلُّ عَلى إسْكانِ المِيمِ في الوَقْفِ. * * * (ص-٢٠١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ البَقَرَةِ كَذا سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ البَقَرَةِ في المَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ وما جَرى في كَلامِ السَّلَفِ، فَقَدْ ورَدَ في الصَّحِيحِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ «مَن قَرَأ الآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ كَفَتاهُ» وفِيهِ «عَنْ عائِشَةَ لَمّا نَزَلَتِ الآياتُ مِن آخِرِ البَقَرَةِ في الرِّبا قَرَأهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قامَ فَحَرَّمَ التِّجارَةَ في الخَمْرِ» . ووَجْهُ تَسْمِيَتِها أنَّها ذُكِرَتْ فِيها قِصَّةُ البَقَرَةِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ بَنِي إسْرائِيلَ بِذَبْحِها لِتَكُونَ آيَةً ووَصَفَ سُوءَ فَهْمِهِمْ لِذَلِكَ، وهي مِمّا انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِ، وعِنْدِي أنَّها أُضِيفَتْ إلى قِصَّةِ البَقَرَةِ تَمْيِيزًا لَها عَنِ السُّورِ ال، الم، مِنَ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ لِأنَّهم كانُوا رُبَّما جَعَلُوا تِلْكَ الحُرُوفَ المُقَطَّعَةَ أسْماءً لِلسُّوَرِ الواقِعَةِ هي فِيها وعَرَّفُوها بِها نَحْوَ: طه، ويس، وص، وفي الِاتِّفاقِ عَنِ المُسْتَدْرَكِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ «إنَّها سَنامُ القُرْآنِ»، وسَنامُ كُلِّ شَيْءٍ أعْلاهُ وهَذا لَيْسَ عَلَمًا لَها ولَكِنَّهُ وصْفُ تَشْرِيفٍ. وكَذَلِكَ قَوْلُ خالِدِ بْنِ مَعْدانَ إنَّها فُسْطاطُ القُرْآنِ والفُسْطاطُ ما يُحِيطُ بِالمَكانِ لِإحاطَتِها بِأحْكامٍ كَثِيرَةٍ. نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ بِالمَدِينَةِ بِالِاتِّفاقِ وهي أوَّلُ ما نَزَلَ في المَدِينَةِ وحَكى ابْنُ حَجَرٍ في شَرْحِ البُخارِيِّ الِاتِّفاقَ عَلَيْهِ، وقِيلَ نَزَلَتْ سُورَةُ المُطَفِّفِينَ قَبْلَها بِناءً عَلى أنَّ سُورَةَ المُطَفِّفِينَ مَدَنِيَّةٌ، ولا شَكَّ أنَّ سُورَةَ البَقَرَةِ فِيها فَرْضُ الصِّيامِ، والصِّيامُ فُرِضَ في السَّنَةِ الأُولى مِنَ الهِجْرَةِ، فُرِضَ فِيها صَوْمُ عاشُوراءَ ثُمَّ فُرِضَ صِيامُ رَمَضانَ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ صامَ سَبْعَ رَمَضاناتٍ أوَّلُها رَمَضانُ مِنَ العامِ الثّانِي مِنَ الهِجْرَةِ. فَتَكُونُ سُورَةُ البَقَرَةِ نَزَلَتْ في السَّنَةِ الأُولى مِنَ الهِجْرَةِ في أواخِرِها أوْ في الثّانِيَةِ. وفي البُخارِيِّ «عَنْ عائِشَةَ ما نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ إلّا وأنا عِنْدَهُ تَعْنِي النَّبِيءَ» ﷺ - وكانَ بِناءُ رَسُولِ اللَّهِ عَلى عائِشَةَ في شَوّالٍ مِنَ السَّنَةِ الأُولى لِلْهِجْرَةِ. وقِيلَ في أوَّلِ السَّنَةِ الثّانِيَةِ، وقَدْ رُوِيَ عَنْها أنَّها مَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ فَتُوُفِّيَ وهي بِنْتُ ثَمانِ عَشْرَةَ سَنَةً وبَنى بِها وهي بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، إلّا أنَّ اشْتِمالَ سُورَةِ البَقَرَةِ عَلى أحْكامِ الحَجِّ والعُمْرَةِ وعَلى أحْكامِ القِتالِ مِنَ المُشْرِكِينَ في الشَّهْرِ الحَرامِ والبَلَدِ الحَرامِ يُنْبِئُ بِأنَّها اسْتَمَرَّ نُزُولُها إلى سَنَةِ خَمْسٍ وسَنَةِ سِتٍّ كَما سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ آيَةِ ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] (ص-٢٠٢)وقَدْ يَكُونُ مُمْتَدًّا إلى ما بَعْدَ سَنَةِ ثَمانٍ كَما يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] الآياتِ إلى قَوْلِهِ ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾ [البقرة: ٢٠٣] عَلى أنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨١] الآيَةَ هو آخِرُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ، وقَدْ بَيَّنّا في المُقَدِّمَةِ الثّامِنَةِ أنَّهُ قَدْ يَسْتَمِرُّ نُزُولُ السُّورَةِ فَتَنْزِلُ في أثْناءِ مُدَّةِ نُزُولِها سُوَرٌ أُخْرى. وقَدْ عُدَّتْ سُورَةُ البَقَرَةِ السّابِعَةَ والثَّمانِينَ في تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ المُطَفِّفِينَ وقَبْلَ آلِ عِمْرانَ. وإذْ قَدْ كانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ في أوَّلِ عَهْدٍ بِإقامَةِ الجامِعَةِ الإسْلامِيَّةِ واسْتِقْلالِ أهْلِ الإسْلامِ بِمَدِينَتِهِمْ كانَ مِن أوَّلِ أغْراضِ هَذِهِ السُّورَةِ تَصْفِيَةُ الجامِعَةِ الإسْلامِيَّةِ مِن أنْ تَخْتَلِطَ بِعَناصِرَ مُفْسِدَةٍ لِما أقامَ اللَّهُ لَها مِنَ الصَّلاحِ سَعْيًا لِتَكْوِينِ المَدِينَةِ الفاضِلَةِ النَّقِيَّةِ مِن شَوائِبِ الدَّجَلِ والدَّخَلِ. وإذْ كانَتْ أوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ الهِجْرَةِ فَقَدْ عُنِيَ بِها الأنْصارُ وأكَبُّوا عَلى حِفْظِها، يَدُلُّ لِذَلِكَ ما جاءَ في السِّيرَةِ أنَّهُ «لَمّا انْكَشَفَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قالَ النَّبِيءُ ﷺ لِلْعَبّاسِ اصْرُخْ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ يا أهْلَ السَّمُرَةِ يَعْنِي شَجَرَةَ البَيْعَةِ في الحُدَيْبِيَةِ يا أهْلَ سُورَةِ البَقَرَةِ فَقالَ الأنْصارُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ أبْشِرْ» . وفِي المُوَطَّأِ قالَ مالِكٌ إنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلى سُورَةِ البَقَرَةِ ثَمانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُها، وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ: كانَ نَصْرانِيٌّ أسْلَمَ فَقَرَأ البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ وكانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ ارْتَدَّ إلى آخِرِ القِصَّةِ. وعَدَدُ آيِها مِائَتانِ وخَمْسٌ وثَمانُونَ آيَةً عِنْدَ أهْلِ العَدَدِ بِالمَدِينَةِ ومَكَّةَ والشّامِ، وسِتٌّ وثَمانُونَ عِنْدَ أهْلِ العَدَدِ بِالكُوفَةِ، وسَبْعٌ وثَمانُونَ عِنْدَ أهْلِ العَدَدِ بِالبَصْرَةِ. * * * (ص-٢٠٣)هَذِهِ السُّورَةُ مُتَرامِيَةٌ أطْرافُها، وأسالِيبُها ذاتُ أفْنانٍ. قَدْ جَمَعَتْ مِن وشائِجِ أغْراضِ السُّوَرِ ما كانَ مِصْداقًا لِتَلْقِيبِها فُسْطاطَ القُرْآنِ. فَلا تَسْتَطِيعُ إحْصاءَ مُحْتَوَياتِها بِحُسْبانٍ، وعَلى النّاظِرِ أنْ يَتَرَقَّبَ تَفاصِيلَ مِنها فِيما يَأْتِي لَنا مِن تَفْسِيرِها، ولَكِنَّ هَذا لا يُحْجِمُ بِنا عَنِ التَّعَرُّضِ إلى لائِحاتٍ مِنها، وقَدْ حِيكَتْ بِنَسْجِ المُناسَباتِ والِاعْتِباراتِ البَلاغِيَّةِ مِن لُحْمَةٍ مُحْكَمَةٍ في نَظْمِ الكَلامِ، وسُدًى مَتِينٍ مِن فَصاحَةِ الكَلِماتِ. ومُعْظَمُ أغْراضِها يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُثْبِتُ سُمُوَّ هَذا الدِّينِ عَلى ما سَبَقَهُ وعُلُوَّ هَدْيِهِ وأُصُولَ تَطْهِيرِهِ النُّفُوسَ، وقِسْمٌ يُبَيِّنُ شَرائِعَ هَذا الدِّينِ لِأتْباعِهِ وإصْلاحِ مُجْتَمَعِهِمْ. وكانَ أُسْلُوبُها أحْسَنَ ما يَأْتِي عَلَيْهِ أُسْلُوبٌ جامِعٌ لِمَحاسِنِ الأسالِيبِ الخِطابِيَّةِ، وأسالِيبِ الكُتُبِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وأسالِيبِ التَّذْكِيرِ والمَوْعِظَةِ، يَتَجَدَّدُ بِمِثْلِهِ نَشاطُ السّامِعِينَ بِتَفَنُّنِ الأفانِينِ، ويَحْضُرُ لَنا مِن أغْراضِها أنَّها ابْتُدِئَتْ بِالرَّمْزِ إلى تَحَدِّي العَرَبِ المُعانِدِينَ تَحَدِّيًا إجْمالِيًّا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي المُفْتَتَحِ بِها رَمْزًا يَقْتَضِي اسْتِشْرافَهم لِما يَرِدُ بَعْدَهُ وانْتِظارَهم لِبَيانِ مَقْصِدِهِ، فَأعْقَبَ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ القُرْآنِ فَتَحَوَّلَ الرَّمْزُ إيماءً إلى بَعْضِ المَقْصُودِ مِن ذَلِكَ الرَّمْزِ لَهُ أشَدُّ وقْعٍ عَلى نُفُوسِهِمْ فَتَبْقى في انْتِظارِ ما يَتَعَقَّبُهُ مِن صَرِيحِ التَّعْجِيزِ الَّذِي سَيَأْتِي بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] الآياتِ. فَعَدَلَ بِهِمْ إلى ذاتِ جِهَةِ التَّنْوِيهِ بِفائِقِ صِدْقِ هَذا الكِتابِ وهَدْيِهِ، وتَخَلَّصَ إلى تَصْنِيفِ النّاسِ تُجاهَ تَلَقِّيهِمْ هَذا الكِتابِ وانْتِفاعِهِمْ بِهَدْيِهِ أصْنافًا أرْبَعَةً (وكانُوا قَبْلَ الهِجْرَةِ صِنْفَيْنِ) بِحَسَبِ اخْتِلافِ أحْوالِهِمْ في ذَلِكَ التَّلَقِّي. وإذْ قَدْ كانَ أخَصُّ الأصْنافِ انْتِفاعًا بِهَدْيِهِ هُمُ المُؤْمِنِينَ بِالغَيْبِ المُقِيمِينَ الصَّلاةَ يَعْنِي المُسْلِمِينَ ابْتُدِئَ بِذِكْرِهِمْ، ولَمّا كانَ أشَدُّ الأصْنافِ عِنادًا وحِقْدًا صِنْفا المُشْرِكِينَ الصُّرَحاءِ والمُنافِقِينَ لُفَّ الفَرِيقانِ لَفًّا واحِدًا فَقُورِعُوا بِالحُجَجِ الدّامِغَةِ والبَراهِينِ السّاطِعَةِ، ثُمَّ خَصَّ بِالإطْنابِ صِنْفَ أهْلِ النِّفاقِ تَشْوِيهًا لِنِفاقِهِمْ وإعْلانًا لِدَخائِلِهِمْ ورَدِّ مَطاعِنِهِمْ، ثُمَّ كانَ خاتِمَةُ ما قُرِعَتْ بِهِ أُنُوفُهم صَرِيحَ التَّحَدِّي الَّذِي رَمَزَ إلَيْهِ بَدْءًا تَحَدِّيًا يُلْجِئُهم إلى الِاسْتِكانَةِ. ويُخْرِسُ ألْسِنَتَهم عَنِ التَّطاوُلِ والإبانَةِ، ويُلْقِي في قَراراتِ أنْفُسِهِمْ مَذَلَّةَ الهَزِيمَةِ وصِدْقَ الرَّسُولِ الَّذِي تَحَدّاهم، فَكانَ ذَلِكَ مِن رَدِّ (ص-٢٠٤)العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ فاتَّسَعَ المَجالُ لِدَعْوَةِ المُنْصِفِينَ إلى عِبادَةِ الرَّبِّ الحَقِّ الَّذِي خَلَقَهم وخَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، وأنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِما في الأرْضِ جَمِيعًا. وتَخَلَّصَ إلى صِفَةِ بَدْءِ خَلْقِ الإنْسانِ فَإنَّ في ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهم بِالخَلْقِ الأوَّلِ قَبْلَ أنْ تُوجَدَ أصْنامُهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَها مِن صالِحِي قَوْمِ نُوحٍ ومَن بَعْدَهم، ومِنَّةً عَلى النَّوْعِ بِتَفْضِيلِ أصْلِهِمْ عَلى مَخْلُوقاتِ هَذا العالَمِ، وبِمَزِيَّتِهِ بِعِلْمِ ما لَمْ يَعْلَمْهُ أهْلُ المَلَأِ الأعْلى وكَيْفَ نَشَأتْ عَداوَةُ الشَّيْطانِ لَهُ ولِنَسْلِهِ، لِتَهْيِئَةِ نُفُوسِ السّامِعِينَ لِاتِّهامِ شَهَواتِها ولِمُحاسَبَتِها عَلى دَعَواتِها. فَهَذِهِ المِنَّةُ الَّتِي شَمِلَتْ كُلَّ الأصْنافِ الأرْبَعَةِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُها كانَتْ مُناسِبَةً لِلتَّخَلُّصِ إلى مِنَّةٍ عُظْمى تَخُصُّ الفَرِيقَ الرّابِعَ وهم أهْلُ الكِتابِ الَّذِينَ هم أشَدُّ النّاسِ مُقاوَمَةً لِهُدى القُرْآنِ، وأنْفَذُ الفِرَقِ قَوْلًا في عامَّةِ العَرَبِ لِأنَّ أهْلَ الكِتابِ يَوْمَئِذٍ هم أهْلُ العِلْمِ ومَظِنَّةُ اقْتِداءِ العامَّةِ لَهم مِن قَوْلِهِ ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: ٤٠] الآياتِ، فَأطْنَبَ في تَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ وأيّامِهِ لَهم، ووَصَفَ ما لاقَوْا بِهِ نِعَمَهُ الجَمَّةَ مِنَ الِانْحِرافِ عَنِ الصِّراطِ السَّوِيِّ انْحِرافًا بَلَغَ بِهِمْ حَدَّ الكُفْرِ وذَلِكَ جامِعٌ لِخُلاصَةِ تَكْوِينِ أُمَّةِ إسْرائِيلَ وجامِعَتُهم في عَهْدِ مُوسى، ثُمَّ ما كانَ مِن أهَمِّ أحْداثِهِمْ مَعَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ قَفَوْا مُوسى إلى أنْ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الإسْلامِ بِالحَسَدِ والعَداوَةِ حَتّى عَلى المَلَكِ جِبْرِيلَ، وبَيانِ أخْطائِهِمْ، لِأنَّ ذَلِكَ يُلْقِي في النُّفُوسِ شَكًّا في تَأهُّلِهِمْ لِلِاقْتِداءِ بِهِمْ. وذَكَرَ مِن ذَلِكَ نَمُوذَجًا مِن أخْلاقِهِمْ مِن تَعَلُّقِ الحَياةِ ﴿ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] ومُحاوَلَةُ العَمَلِ بِالسِّحْرِ ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ﴾ [البقرة: ١٠٢] إلَخْ وأذى النَّبِيءِ بِمُوَجَّهِ الكَلامِ ﴿لا تَقُولُوا راعِنا﴾ [البقرة: ١٠٤] ثُمَّ قُرِنَ اليَهُودُ والنَّصارى والمُشْرِكُونَ في قَرْنِ حَسَدِهِمُ المُسْلِمِينَ والسُّخْطِ عَلى الشَّرِيعَةِ الجَدِيدَةِ ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٠٥] إلى قَوْلِهِ ﴿ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ١١٢]، ثُمَّ ما أُثِيرَ مِنَ الخِلافِ بَيْنَ اليَهُودِ والنَّصارى وادِّعاءُ كُلِّ فَرِيقٍ أنَّهُ هو المُحِقُّ ﴿وقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ﴾ [البقرة: ١١٣] إلى يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ خُصَّ المُشْرِكُونَ بِأنَّهم أظْلَمُ هَؤُلاءِ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ لِأنَّهم مَنَعُوا المُسْلِمِينَ مِن ذِكْرِ اللَّهِ في المَسْجِدِ الحَرامِ وسَعَوْا بِذَلِكَ في خَرابِهِ وأنَّهم تَشابَهُوا في ذَلِكَ هم واليَهُودُ والنَّصارى واتَّحَدُوا في كَراهِيَةِ الإسْلامِ. وانْتَقَلَ بِهَذِهِ المُناسَبَةِ إلى فَضائِلِ المَسْجِدِ الحَرامِ، وبانِيهِ، ودَعْوَتِهِ لِذُرِّيَّتِهِ بِالهُدى (ص-٢٠٥)والِاحْتِرازِ عَنْ إجابَتِها في الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم، وأنَّ الإسْلامَ عَلى أساسِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ وهو التَّوْحِيدُ، وأنَّ اليَهُودِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ لَيْسَتا مِلَّةَ إبْراهِيمَ، وأنَّ مِن ذَلِكَ الرُّجُوعَ إلى اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ آيَةً عَلى أنَّ الإسْلامَ هو القائِمُ عَلى أساسِ الحَنِيفِيَّةِ، وذِكْرِ شَعائِرِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، وإبْكاتِ أهْلِ الكِتابِ في طَعْنِهِمْ عَلى تَحْوِيلِ القِبْلَةِ، وأنَّ العِنايَةَ بِتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ أجْدَرُ مِنَ العِنايَةِ بِاسْتِقْبالِ الجِهاتِ ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وذُكِّرُوا بِنَسْخِ الشَّرائِعِ لِصَلاحِ الأُمَمِ وأنَّهُ لا بِدَعَ في نَسْخِ شَرِيعَةِ التَّوْراةِ أوِ الإنْجِيلِ بِما هو خَيْرٌ مِنهُما. ثُمَّ عادَ إلى مُحاجَّةِ المُشْرِكِينَ بِالِاسْتِدْلالِ بِآثارِ صَنْعَةِ اللَّهِ ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والفُلْكِ﴾ [البقرة: ١٦٤] إلَخْ، ومُحاجَّةِ المُشْرِكِينَ في يَوْمٍ يَتَبَرَّءُونَ فِيهِ مِن قادَتِهِمْ، وإبْطالِ مَزاعِمِ دِينِ الفَرِيقَيْنِ في مُحَرَّماتٍ مِنَ الأكْلِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢]، وقَدْ كَمَّلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ صِنْفٍ مِنَ النّاسِ قَلِيلٍ وهُمُ المُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا الإسْلامَ ولَكِنَّهم أظْهَرُوا مَوَدَّةَ المُسْلِمِينَ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [البقرة: ٢٠٤] ولَمّا قَضى حَقَّ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأبْدَعِ بَيانٍ وأوْضَحِ بُرْهانٍ، انْتَقَلَ إلى قِسْمِ تَشْرِيعاتِ الإسْلامِ إجْمالًا بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] ثُمَّ تَفْصِيلًا: القِصاصُ، الوَصِيَّةُ، الصِّيامُ، الِاعْتِكافُ، الحَجُّ، الجِهادُ، ونِظامُ المُعاشَرَةِ والعائِلَةُ، المُعامَلاتُ المالِيَّةُ، والإنْفاقُ في سَبِيلِ اللَّهِ، والصَّدَقاتُ، والمُسْكِراتُ، واليَتامى، والمَوارِيثُ، والبُيُوعُ والرِّبا، والدُّيُونُ، والإشْهادُ، والرَّهْنُ، والنِّكاحُ، وأحْكامُ النِّساءِ، والعِدَّةُ، والطَّلاقُ، والرَّضاعُ، والنَّفَقاتُ، والأيْمانُ. وخُتِمَتِ السُّورَةُ بِالدُّعاءِ المُتَضَمِّنِ لِخَصائِصِ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ وذَلِكَ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ فَكانَ هَذا الخِتامُ تَذْيِيلًا وفَذْلَكَةً ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] الآياتِ. وكانَتْ في خِلالِ ذَلِكَ كُلِّهِ أغْراضٌ شَتّى سَبَقَتْ في مَعْرِضِ الِاسْتِطْرادِ في مُتَفَرِّقِ المُناسَباتِ تَجْدِيدًا لِنَشاطِ القارِئِ والسّامِعِ، كَما يُسْفِرُ وجْهُ الشَّمْسِ إثْرَ نُزُولِ الغُيُوثِ الهَوامِعِ، وتَخْرُجُ بَوادِرُ الزَّهْرِ عَقِبَ الرُّعُودِ القَوارِعِ، مِن تَمْجِيدِ اللَّهِ وصِفاتِهِ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] ورَحْمَتِهِ وسَماحَةِ الإسْلامِ، وضَرْبِ أمْثالٍ أوْ كَصَيِّبٍ واسْتِحْضارِ نَظائِرَ ﴿وإنَّ مِنَ الحِجارَةِ﴾ [البقرة: ٧٤] (ص-٢٠٦)﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] وعِلْمٍ وحِكْمَةٍ، ومَعانِي الإيمانِ والإسْلامِ، وتَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ [البقرة: ١٥٣] والكَمالاتِ الأصْلِيَّةِ، والمَزايا التَّحْسِينِيَّةِ، وأخْذِ الأعْمالِ والمَعانِي مِن حَقائِقِها وفَوائِدِها لا مِن هَيْئاتِها، وعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِالمُصْطَلَحاتِ إذا لَمْ تَرْمِ إلى غاياتٍ ﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها﴾ [البقرة: ١٨٩] ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٧] ﴿وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] والنَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ، ونِظامِ المُحاجَّةِ، وأخْبارِ الأُمَمِ الماضِيَةِ، والرُّسُلِ وتَفاضُلِهِمْ، واخْتِلافِ الشَّرائِعِ.

Maximize your Quran.com experience!
Start your tour now:

0%