undefined
undefined
undefined
undefined
(ص-١٨٧)﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ تَهَيَّأ لِأصْحابِ هَذِهِ المُناجاةِ أنْ يَسْعَوْا إلى طَلَبِ حُظُوظِهِمُ الشَّرِيفَةِ مِنَ الهِدايَةِ بَعْدَ أنْ حَمِدُوا اللَّهَ ووَصَفُوهُ بِصِفاتِ الجَلالَةِ ثُمَّ أتْبَعُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] الَّذِي هو واسِطَةٌ جامِعٌ بَيْنَ تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ إظْهارِ العُبُودِيَّةِ وهي حَظُّ العَبْدِ بِأنَّهُ عابِدٌ ومُسْتَعِينٌ وأنَّهُ قاصِرٌ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَكانَ ذَلِكَ واسِطَةً بَيْنَ الثَّناءِ وبَيْنَ الطَّلَبِ، حَتّى إذا ظَنُّوا بِرَبِّهِمُ الإقْبالَ عَلَيْهِمْ ورَجَوْا مِن فَضْلِهِ، أفْضَوْا إلى سُؤْلِ حَظِّهِمْ فَقالُوا ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ فَهو حَظُّ الطّالِبِينَ خاصَّةً لِما يَنْفَعُهم في عاجِلِهِمْ وآجِلِهِمْ، فَهَذا هو التَّوْجِيهُ المُناسِبُ لِكَوْنِ الفاتِحَةِ بِمَنزِلَةِ الدِّيباجَةِ لِلْكِتابِ الَّذِي أُنْزِلَ هُدًى لِلنّاسِ ورَحْمَةً فَتَتَنَزَّلُ هاتِهِ الجُمْلَةُ مِمّا قَبْلَها مَنزِلَةَ المَقْصِدِ مِنَ الدِّيباجَةِ، أوِ المَوْضُوعِ مِنَ الخُطْبَةِ، أوِ التَّخَلُّصِ مِنَ القَصِيدَةِ، ولِاخْتِلافِ الجُمَلِ المُتَقَدِّمَةِ مَعَها بِالخَبَرِيَّةِ والإنْشائِيَّةِ فُصِلَتْ هَذِهِ عَنْهُنَّ، وهَذا أوْلى في التَّوْجِيهِ مِن جَعْلِها جَوابًا لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ.
والهِدايَةُ الدَّلالَةُ بِتَلَطُّفٍ ولِذَلِكَ خُصَّتْ بِالدَّلالَةِ لِما فِيهِ خَيْرُ المَدْلُولِ لِأنَّ التَّلَطُّفَ يُناسِبُ مَن أُرِيدَ بِهِ الخَيْرُ، وهو يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ بِنَفْسِهِ لِأنَّ مَعْناهُ مَعْنى الإرْشادِ، ويَتَعَدّى إلى المَفْعُولِ الثّانِي وهو المُهْدى إلَيْهِ بِإلى وبِاللّامِ، والِاسْتِعْمالانِ وارِدانِ، تَقُولُ: هَدَيْتُهُ إلى كَذا عَلى مَعْنى أوْصَلْتُهُ إلى مَعْرِفَتِهِ، وهَدَيْتُهُ لِكَذا عَلى مَعْنى أرْشَدْتُهُ لِأجْلِ كَذا ﴿فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٣]، ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا﴾ [الأعراف: ٤٣] وقَدْ يُعَدّى إلى المَفْعُولِ الثّانِي بِنَفْسِهِ كَما هُنا عَلى تَضْمِينِهِ مَعْنى عَرَفَ، قِيلَ هي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ وأمّا غَيْرُهم فَلا يُعَدِّيهِ بِنَفْسِهِ وقَدْ جَعَلُوا تَعْدِيَتَهُ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّوَسُّعِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالحَذْفِ والإيصالِ.
وقِيلَ: الفَرْقُ بَيْنَ المُتَعَدِّي وغَيْرِهِ أنَّ المُتَعَدِّيَ يُسْتَعْمَلُ في الهِدايَةِ لِمَن كانَ في الطَّرِيقِ ونَحْوِهِ لِيَزْدادَ هُدًى، ومَصْدَرُهُ حِينَئِذٍ الهِدايَةُ، وأمّا هَداهُ إلى كَذا أوْ لِكَذا فَيُسْتَعْمَلُ لِمَن لَمْ يَكُنْ سائِرًا في الطَّرِيقِ ومَصْدَرُهُ هُدًى، وكَأنَّ صاحِبَ هَذا القَوْلِ نَظَرَ إلى أنَّ المُتَعَدِّيَ بِالحَرْفِ إنَّما عُدِّيَ لِتَقْوِيَتِهِ، والتَّقْوِيَةُ إمّا أنْ يَقْصِدَ بِها تَقْوِيَةَ العامِلِ لِضَعْفِهِ في العَمَلِ بِالفَرْعِيَّةِ أوِ التَّأْخِيرِ، وإمّا أنْ يَقْصِدَ بِها تَقْوِيَةَ مَعْناهُ، والحَقُّ أنَّ هَذا إنْ تَمَّ فَهو أغْلَبِيٌّ عَلى أنَّهُ تَخْصِيصٌ مِنَ الِاسْتِعْمالِ فَلا يَقْتَضِي كَوْنُ الفِعْلِ مُخْتَلِفَ المَعْنى؛ لِأنَّ الفِعْلَ لا تَخْتَلِفُ مَعانِيهِ بِاعْتِبارِ كَيْفِيَّةِ تَعْدِيَتِهِ إلّا إذا ضُمِّنَ مَعْنى فِعْلٍ آخَرَ، (ص-١٨٨)عَلى أنَّ كُلًّا مِنَ الهُدى والهِدايَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ، والمَصْدَرُ هو الهَدْيُ. والَّذِي أراهُ أنَّ التَّعْدِيَةَ والقُصُورَ لَيْسا مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُصْنَعُ بِاليَدِ أوْ يَصْطَلِحُ عَلَيْها أحَدٌ، بَلْ هي جارِيَةٌ عَلى مَعْنى الحَدَثِ المَدْلُولِ لِلْفِعْلِ فَإنْ كانَ الحَدَثُ يَتَقَوَّمُ مَعْناهُ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِ مَن قامَ بِهِ فَهو الفِعْلُ القاصِرُ، وإنْ كانَ لا يَتَقَوَّمُ إلّا بِتَصَوُّرِ مَن قامَ بِهِ، ومَن وقَعَ عَلَيْهِ فَهو المُتَعَدِّي إلى واحِدٍ أوْ أكْثَرَ، فَإنْ أُشْكِلَتْ أفْعالٌ فَإنَّما إشْكالُها لِعَدَمِ اتِّضاحِ تَشَخُّصِ الحَدَثِ المُرادِ مِنها؛ لِأنَّ مَعْناها يَحُومُ حَوْلَ مَعانٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
”وهَدى“ مُتَعَدٍّ لِواحِدٍ لا مَحالَةَ، وإنَّما الكَلامُ في تَعْدِيَتِهِ لِثانٍ فالحَقُّ أنَّهُ إنِ اعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنى الإرادَةِ والإبانَةِ تَعَدّى بِنَفْسِهِ، وإنِ اعْتُبِرَ فِيهِ مُطْلَقُ الإرْشادِ والإشارَةِ فَهو مُتَعَدٍّ بِالحَرْفِ فَحالَةُ تَعْدِيَتِهِ هي المُؤْذِنَةُ بِالحَدَثِ المُتَضَمِّنِ لَهُ.
وقَدْ قِيلَ إنَّ حَقِيقَةَ الهِدايَةِ الدَّلالَةُ عَلى الطَّرِيقِ لِلْوُصُولِ إلى المَكانِ المَقْصُودِ، فالهادِي هو العارِفُ بِالطُّرُقِ وفي حَدِيثِ الهِجْرَةِ «إنَّ أبا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا مِن بَنِي الدِّيلِ هادِيًا خِرِّيتًا» وإنَّ ما نَشَأ مِن مَعانِي الهِدايَةِ هو مَجازاتٌ شاعَ اسْتِعْمالُها. والهِدايَةُ في اصْطِلاحِ الشَّرْعِ حِينَ تُسْنَدُ إلى اللَّهِ تَعالى هي الدَّلالَةُ عَلى ما يُرْضِي اللَّهَ مِن فِعْلِ الخَيْرِ ويُقابِلُها الضَّلالَةُ وهي التَّغْرِيرُ.
واخْتَلَفَ عُلَماءُ الكَلامِ في اعْتِبارِ قَيْدِ الإيصالِ إلى الخَيْرِ في حَقِيقَةِ الهِدايَةِ فالجُمْهُورُ عَلى عَدَمِ اعْتِبارِهِ وأنَّها الدَّلالَةُ عَلى طَرِيقِ الوُصُولِ سَواءٌ حَصَلَ الوُصُولُ أمْ لَمْ يَحْصُلْ، وهو قَوْلُ الأشاعِرَةِ وهو الحَقُّ. وذَهَبَ جَماعَةٌ مِنهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى أنَّ الهِدايَةَ هي الدَّلالَةُ مَعَ الإيصالِ وإلّا لَما امْتازَتْ عَنِ الضَّلالَةِ أيْ حَيْثُ كانَ اللَّهُ قادِرًا عَلى أنْ يُوصِلَ مَن يَهْدِيهِ إلى ما هَداهُ إلَيْهِ، ومَرْجِعُ الخِلافِ إلى اخْتِلافِهِمْ في أصْلٍ آخَرَ، وهو أصْلُ مَعْنى رِضى اللَّهِ ومَشِيئَتِهِ وإرادَتِهِ وأمْرِهِ، فَأصْحابُ الأشْعَرِيِّ اعْتَبَرُوا الهِدايَةَ الَّتِي هي مِن مُتَعَلِّقِ الأمْرِ. والمُعْتَزِلَةُ نَظَرُوا إلى الهِدايَةِ الَّتِي هي مِن مُتَعَلِّقِ التَّكْوِينِ والخَلْقِ، ولا خِلافَ في أنَّ الهِدايَةَ مَعَ الوُصُولِ هي المَطْلُوبَةُ شَرْعًا مِنَ الهادِي والمَهْدِيِّ، مَعَ أنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الخَطَأُ لِلْهادِي وسُوءُ القَبُولِ مِنَ المَهْدِيِّ، وهَذا مَعْنى ما اخْتارَ عَبْدُ الحَكِيمِ أنَّها مَوْضُوعَةٌ في الشَّرْعِ لِلْقَدْرِ المُشْتَرِكِ، لِوُرُودِها في القُرْآنِ في كُلٍّ مِنهُما قالَ ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] وقالَ ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] والأصْلُ عَدَمُ الِاشْتِراكِ وعَدَمُ المَجازِ.
والهِدايَةُ أنْواعٌ تَنْدَرِجُ كَثْرَتُها تَحْتَ أرْبَعَةِ أجْناسٍ مُتَرَتِّبَةٍ: الأوَّلُ إعْطاءُ القُوى المُحَرِّكَةِ والمُدْرِكَةِ الَّتِي بِها يَكُونُ الِاهْتِداءُ إلى انْتِظامِ وُجُودِ ذاتِ الإنْسانِ، ويَنْدَرِجُ تَحْتَها أنْواعٌ (ص-١٨٩)تَبْتَدِئُ مِن إلْهامِ الصَّبِيِّ التِقامَ الثَّدْيِ والبُكاءَ عِنْدَ الألَمِ إلى غايَةِ الوِجْدانِيّاتِ الَّتِي بِها يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، كَإدْراكِ هَوْلِ المُهْلِكاتِ وبَشاعَةِ المُنافَراتِ، ويَجْلِبُ مَصالِحَهُ الوُجُودِيَّةَ كَطَلَبِ الطَّعامِ والماءِ وذَوْدِ الحَشَراتِ عَنْهُ وحَكِّ الجِلْدِ واخْتِلاجِ العَيْنِ عِنْدَ مُرُورِ ما يُؤْذِي تُجاهَها، ونِهايَتُها أحْوالُ الفِكْرِ وهو حَرَكَةُ النَّفْسِ في المَعْقُولاتِ أعْنِي مُلاحَظَةَ المَعْقُولِ لِتَحْصِيلِ المَجْهُولِ في البَدِيهِيّاتِ وهي القُوَّةُ النّاطِقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ بِها الإنْسانُ المُنْتَزَعَةُ مِنَ العُلُومِ المَحْسُوسَةِ.
الثّانِي نَصْبُ الأدِلَّةِ الفارِقَةِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ والصَّوابِ والخَطَأِ، وهي هِدايَةُ العُلُومِ النَّظَرِيَّةِ. الثّالِثُ الهِدايَةُ إلى ما قَدْ تُقَصِّرُ عَنْهُ الأدِلَّةُ أوْ يُفْضِي إعْمالُها في مِثْلِهِ إلى مَشَقَّةٍ وذَلِكَ بِإرْسالِ الرُّسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ ومَوازِينِ القِسْطِ وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى في شَأْنِ الرُّسُلِ (وجَعَلْناهم أيِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا) . الرّابِعُ أقْصى أجْناسِ الهِدايَةِ وهي كَشْفُ الحَقائِقِ العُلْيا وإظْهارُ أسْرارِ المَعانِي الَّتِي حارَتْ فِيها ألْبابُ العُقَلاءِ إمّا بِواسِطَةِ الوَحْيِ والإلْهامِ الصَّحِيحِ أوِ التَّجَلِّياتِ، وقَدْ سَمّى اللَّهُ تَعالى هَذا هُدًى حِينَ أضافَهُ لِلْأنْبِياءِ فَقالَ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] ولا شَكَّ أنَّ المَطْلُوبَ بِقَوْلِهِ (( اهْدِنا) ) المُلَقَّنِ لِلْمُؤْمِنِينَ هو ما يُناسِبُ حالَ الدّاعِي بِهَذا إنْ كانَ بِاعْتِبارِ داعٍ خاصٍّ أوْ طائِفَةٍ خاصَّةٍ عِنْدَما يَقُولُونَ: اهْدِنا، أوْ هو أنْواعُ الهِدايَةِ عَلى الجُمْلَةِ بِاعْتِبارِ تَوْزِيعِها عَلى مَن تَأهَّلَ لَها بِحَسَبِ أهْلِيَّتِهِ إنْ كانَ دُعاءً عَلى لِسانِ المُؤْمِنِينَ كُلِّهِمُ المُخاطَبِينَ بِالقُرْآنِ، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ فَبَعْضُ أنْواعِ الهِدايَةِ مَطْلُوبٌ حُصُولُهُ لِمَن لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ، وبَعْضُها مَطْلُوبٌ دَوامُهُ لِمَن كانَ حاصِلًا لَهُ خاصَّةً أوْ لِجَمِيعِ النّاسِ الحاصِلِ لَهم، وذَلِكَ كالهِدايَةِ الحاصِلَةِ لَنا قَبْلَ أنْ نَسْألَها مِثْلَ غالِبِ أنْواعِ الجِنْسِ الأوَّلِ.
وصِيغَةُ الطَّلَبِ مَوْضُوعَةٌ لِطَلَبِ حُصُولِ الماهِيَّةِ المَطْلُوبَةِ مِن فِعْلٍ أوْ كَفٍّ، فَإذا اسْتُعْمِلَتْ في طَلَبِ الدَّوامِ كانَ اسْتِعْمالُها مَجازًا نَحْوَ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ [النساء: ١٣٦] وذَلِكَ حَيْثُ لا يُرادُ بِها إلّا طَلَبُ الدَّوامِ.
وأمّا إذا اسْتُعْمِلَتْ في طَلَبِ الدَّوامِ لِلزِّيادَةِ مِمّا حَصَلَ بَعْضُهُ ولَمْ يَحْصُلْ بَعْضُهُ فَهي مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْناها وهو طَلَبُ الحُصُولِ لِأنَّ الزِّيادَةَ في مَراتِبِ الهِدايَةِ مَثَلًا تَحْصِيلٌ لِمَوادَّ أُخْرى مِنها.
ولَمّا كانَ طَلَبُ الزِّيادَةِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ دَوامِ ما حَصَلَ إذْ لا تَكادُ تَنْفَعُ الزِّيادَةُ إذا انْتَقَضَ الأصْلُ كانَ اسْتِعْمالُها حِينَئِذٍ في لازِمِ المَعْنى مَعَ المَعْنى فَهو كِنايَةٌ. أمّا إذا قالَ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ مَن بَلَغَ جَمِيعَ مَراتِبِ الهِدايَةِ ورَقِيَ إلى قِمَّةِ غاياتِها وهو النَّبِيءُ - صَلّى اللَّهُ (ص-١٩٠)عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَإنَّ دُعاءَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في مَجازِ مَعْناهُ، ويَكُونُ دُعاؤُهُ ذَلِكَ اقْتِباسًا مِنَ الآيَةِ ولَيْسَ عَيْنَ المُرادِ مِنَ الآيَةِ لِأنَّ المُرادَ مِنها طَلَبُ الحُصُولِ بِالمَزِيدِ مَعَ طَلَبِ الدَّوامِ بِطَرِيقَةِ الِالتِزامِ ولا مَحالَةَ أنَّ المَقْصُودَ في الآيَةِ هو طَلَبُ الهِدايَةِ الكامِلَةِ.
والصِّراطُ: الطَّرِيقُ، وهو بِالصّادِ وبِالسِّينِ وقَدْ قُرِئَ بِهِما في المَشْهُورَةِ، وكَذَلِكَ نَطَقَتْ بِهِ بِالسِّينِ جُمْهُورُ العَرَبِ إلّا أهْلَ الحِجازِ نَطَقُوهُ بِالصّادِ مُبْدَلَةً عَنِ السِّينِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ في الِانْتِقالِ مِنَ السِّينِ إلى الرّاءِ ثُمَّ إلى الطّاءِ، قالَ في لَطائِفِ الإشاراتِ عَنِ الجَعْبَرِيِّ إنَّهم يَفْعَلُونَ ذَلِكَ في كُلِّ سِينٍ بَعْدَها غَيْنٌ أوْ خاءٌ أوْ قافٌ أوْ طاءٌ وإنَّما قَلَبُوها هُنا صادًا لِتُطابِقَ الطّاءَ في الإطْباقِ والِاسْتِعْلاءِ والتَّفَخُّمِ مَعَ الرّاءِ اسْتِثْقالًا لِلِانْتِقالِ مِن سُفْلٍ إلى عُلُوٍّ اهـ.
أيْ بِخِلافِ العَكْسِ نَحْوَ طَسْتٍ لِأنَّ الأوَّلَ عَمَلٌ والثّانِي تَرْكٌ. وقَيْسٌ قَلَبُوا السِّينَ بَيْنَ الصّادِ والزّايِ وهو إشْمامٌ وقَرَأ بِهِ حَمْزَةُ في رِوايَةِ خَلَفٍ عَنْهُ. ومِنَ العَرَبِ مَن قَلَبَ السِّينَ زايًا خالِصَةً، قالَ القُرْطُبِيُّ: وهي لُغَةُ عُذْرَةَ وكَلْبٍ وبَنِي القَيْنِ وهي مَرْجُوحَةٌ ولَمْ يُقْرَأْ بِها، وقَدْ قَرَأ بِاللُّغَةِ الفُصْحى (بِالصّادِ) جُمْهُورُ القُرّاءِ، وقَرَأ بِالسِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ قُنْبُلٍ، والقِراءَةُ بِالصّادِ هي الرّاجِحَةُ لِمُوافَقَتِها رَسْمَ المُصْحَفِ وكَوْنِها اللُّغَةَ الفُصْحى.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ كُتِبَتْ في المُصْحَفِ بِالصّادِ وقَرَأها بَعْضُ القُرّاءِ بِالسِّينِ ؟ قُلْتُ: إنَّ الصَّحابَةَ كَتَبُوها بِالصّادِ تَنْبِيهًا عَلى الأفْصَحِ فِيها؛ لِأنَّهم يَكْتُبُونَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ واعْتَمَدُوا عَلى عِلْمِ العَرَبِ. فالَّذِينَ قَرَءُوا بِالسِّينِ تَأوَّلُوا أنَّ الصَّحابَةَ لَمْ يَتْرُكُوا لُغَةَ السِّينِ لِلْعِلْمِ بِها فَعادَلُوا الأفْصَحَ بِالأصْلِ ولَوْ كَتَبُوها بِالسِّينِ مَعَ أنَّها الأصْلُ لَتَوَهَّمَ النّاسُ عَدَمَ جَوازِ العُدُولِ عَنْهُ؛ لِأنَّهُ الأصْلُ والمَرْسُومُ كَما كَتَبُوا (المُصَيْطِرَ) بِالصّادِ مَعَ العِلْمِ بِأنَّ أصْلَهُ السِّينُ فَهَذا مِمّا يَرْجِعُ الخِلافُ فِيهِ إلى الِاخْتِلافِ في أداءِ اللَّفْظِ لا في مادَّةِ اللَّفْظِ لِشُهْرَةِ اخْتِلافِ لَهَجاتِ القَبائِلِ في لَفْظٍ مَعَ اتِّحادِهِ عِنْدَهم.
والصِّراطُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِن أهْلِ اللُّغَةِ أنَّهُ مُعَرَّبٌ ولَكِنْ ذُكِرَ في الإتْقانِ عَنِ النَّقّاشِ وابْنِ الجَوْزِيِّ أنَّهُ الطَّرِيقُ بِلُغَةِ الرُّومِ وذُكِرَ أنَّ أبا حاتِمٍ ذَكَرَ ذَلِكَ في كِتابِ الزِّينَةِ لَهُ وبَنى عَلى ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فَزادَهُ في مَنظُومَتِهِ في المُعَرَّبِ، والصِّراطُ في هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَعارٌ لِمَعْنى الحَقِّ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ مُدْرِكُهُ إلى الفَوْزِ بِرِضاءِ اللَّهِ لِأنَّ ذَلِكَ الفَوْزَ هو الَّذِي جاءَ الإسْلامُ بِطَلَبِهِ.
(ص-١٩١)والمُسْتَقِيمُ اسْمُ فاعِلِ اسْتَقامَ مُطاوِعٌ قَوَّمْتُهُ فاسْتَقامَ، والمُسْتَقِيمُ الَّذِي لا عِوَجَ فِيهِ ولا تَعارِيجَ، وأحْسَنُ الطُّرُقِ الَّذِي يَكُونُ مُسْتَقِيمًا وهو الجادَّةُ، لِأنَّهُ بِاسْتِقامَتِهِ يَكُونُ أقْرَبَ إلى المَكانِ المَقْصُودِ مِن غَيْرِهِ فَلا يَضِلُّ فِيهِ سالِكُهُ ولا يَتَرَدَّدُ ولا يَتَحَيَّرُ.
والمُسْتَقِيمُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلْحَقِّ البَيِّنِ الَّذِي لا تَخْلِطُهُ شُبْهَةُ باطِلٍ فَهو كالطَّرِيقِ الَّذِي لا تَتَخَلَّلُهُ بُنَيّاتٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ دِينُ الحَقِّ، ونُقِلَ عَنْهُ أنَّهُ مِلَّةُ الإسْلامِ، فَكَلامُهُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا ولا يُرِيدُ أنَّهم لُقِّنُوا الدُّعاءَ بِطَلَبِ الهِدايَةِ إلى دِينٍ مَضى وإنْ كانَتِ الأدْيانُ الإلَهِيَّةُ كُلُّها صُرُطًا مُسْتَقِيمَةً بِحَسَبِ أحْوالِ أُمَمِها، يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في حِكايَةِ غِوايَةِ الشَّيْطانِ ﴿قالَ فَبِما أغْوَيْتَنِي لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] ١١١ فالتَّعْرِيفُ في الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ تَعْرِيفُ العَهْدِ الذِّهْنِيِّ، لِأنَّهم سَألُوا الهِدايَةَ لِهَذا الجِنْسِ في ضِمْنِ فَرْدٍ وهو الفَرْدُ المُنْحَصِرُ فِيهِ الِاسْتِقامَةُ لِأنَّ الِاسْتِقامَةَ لا تَتَعَدَّدُ كَما قالَ تَعالى ﴿فَماذا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ﴾ [يونس: ٣٢] ولِأنَّ الضَّلالَ أنْواعٌ كَثِيرَةٌ كَما قالَ ﴿ولَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ﴾ [المائدة: ١٠٠] وقَدْ يُوَجَّهُ هَذا التَّفْسِيرُ بِحُصُولِ الهِدايَةِ إلى الإسْلامِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ هَذا الدُّعاءَ لِإظْهارِ مِنَّتِهِ وقَدْ هَداهُمُ اللَّهُ بِما سَبَقَ مِنَ القُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ الفاتِحَةِ ويَهْدِيهِمْ بِما لَحِقَ مِنَ القُرْآنِ والإرْشادِ النَّبَوِيِّ.
وإطْلاقُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ عَلى دِينِ الإسْلامِ ورَدَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: ١٦١] . والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ المُرادَ بِالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ المَعارِفُ الصّالِحاتُ كُلُّها مِنَ اعْتِقادٍ وعَمَلٍ بِأنْ يُوَفِّقَهم إلى الحَقِّ والتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الضَّلالِ عَلى مَقادِيرِ اسْتِعْدادِ النُّفُوسِ وسَعَةِ مَجالِ العُقُولِ النَّيِّرَةِ والأفْعالِ الصّالِحَةِ بِحَيْثُ لا يَعْتَرِيهِمْ زَيْغٌ وشُبْهاتٌ في دِينِهِمْ وهَذا أوْلى لِيَكُونَ الدُّعاءُ طَلَبَ تَحْصِيلِ ما لَيْسَ بِحاصِلٍ وقْتَ الطَّلَبِ، وإنَّ المَرْءَ بِحاجَةٍ إلى هَذِهِ الهِدايَةِ في جَمِيعِ شُئُونِهِ كُلِّها حَتّى في الدَّوامِ عَلى ما هو مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنَ الخَيْرِ لِلْوِقايَةِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِيهِ أوِ الزَّيْغِ عَنْهُ.
والهِدايَةُ إلى الإسْلامِ لا تُقْصَرُ عَلى ابْتِداءِ اتِّباعِهِ وتَقَلُّدِهِ بَلْ هي مُسْتَمِرَّةٌ بِاسْتِمْرارِ تَشْرِيعاتِهِ وأحْكامِهِ بِالنَّصِّ أوِ الِاسْتِنْباطِ. وبِهِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] مُصادِفًا المِحَزِّ.